fbpx
قلم وميدان

مِنْ بوعزيزي .. إلى جوليو ريجيني

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مِنْ بوعزيزي إلى جوليو ريجيني

بعد مرور خمس سنوات – وسقوط خمسمائة ألف قتيل في سوريا – تبقى تونس دولة الربيع العربي الوحيدة حيث لم تنحرف الثورة عن مسارها، وفيها يشارك إسلاميو النهضة السلطة مع الحزب العلماني نداء تونس؛ ورغم وجود جارة مثيرة للمشاكل مثل ليبيا، ورغم محاولات الجهاديين تقويض كل ذلك بهجمات على متحف باردو وسوسة التي قضت على 85% من دخل السياحة، تحافظ كل زاوية في تونس على جمالها التقليدي، ويشير كثير من المحللين إلى أن تونس تذكرك بأوروبا، فهي حرة ومفعمة بالحياة، يخبرونك بأن المقاهي في كل مكان وطاولاتها مزدحمة طوال اليوم. وهي حقيقة، ولكن لأنه لا أحد يشغل وظيفة هنا، لا أحد يجد ما يفعله.

تبعد سيدي بوزيد مائة وثلاثين ميلا عن تونس العاصمة، وهي المدينة التي شهدت بداية الأحداث، حيث أشعل البائع المتجول محمد بوعزيزي، البالغ من العمر 26 عاما، النار في نفسه يوم 17 ديسمبر، 2010 بعد مصادرة العربة التي كان يتكسب منها ببيع الخضر والفواكه، كان بوعزيزي يتيم الأب وكان الابن الأول بين خمسة أولاد، وكان يعمل منذ بلوغه العاشرة، وقضى انتحاره على زين العابدين بِن علي، وهز العالم العربي بأسرِه؛ واليوم يسمى الشارع الرئيسي هنا باسمه، وهذا هو الفارق الوحيد بين 2010 و2016.

يطيل الجميع من مقاهيهم النظر إليك، متعجبين لرؤية غريب في هذه الكومة من التراب والإسمنت المنعزلة في هذا المكان البعيد، حيث لا تبعد الصحراء عن المدينة سوى بضعة أميال، تبدأ التربة هنا بالتفكك إلى رمال، فسيدي بوزيد من تلك الأماكن التي لا تجد فيها منتجات الصين المقلدة؛ بل تجد فقط بضاعة مستعملة. السوق تظنه لأول وهلة مقلبا للمهملات، فهو أحد تلك الأماكن التي تبيع فيها الأمهات ألعاب أطفالهن فور أن يكبروا.

تونس هنا ليست أوروبا، بل هي أفريقيا، وقد انتقل منها حوالي 6000 شاب بالفعل إلى الرقة، إلى دولة الخلافة، ولكن ليس بدافع الإسلام، بل يلتحق أغلب التونسيين بداعش ليحصلوا في النهاية على وظيفة.

وخلال السنوات الخمس الأخيرة، تضاعف معدل البطالة في سيدي بوزيد من 14 إلى 28%، ولكن الأرقام الحقيقية دائما ما تكون أعلى بكثير، خاصة وأن الأجور في أغلب الأحيان قلما تكفي متطلبات المعيشة. الأرقام الحقيقية هي أن من في العشرينيات الذي تراهم فجأة فوق الأسطح وأطر المباني وأعمدة الإنارة، يريدون الانتحار، مثل محمد بوعزيزي، لأنهم في النهاية – وكما يردون على المارة الذين يحاولون ثنيهم عن الانتحار، “في النهاية نحن بالفعل أموات.”

ما يرسخ في ذهنك هنا ليس الفقر واليأس، بل السهولة التي يمكن بها تحسين الوضع، لأنه وبالمقارنة مع دول معقدة مثل لبنان، والعراق، واليمن، فإن تونس حقا استثناء. هي لا تملك نفطا، وهذه بطريقة أو بأخرى نعمة لأن هذا يعني أنها لست فريسة مثل ليبيا؛ وليس لديها جيش كمصر بمثابة دولة عميقة وجهاز سلطة على استعداد للقيام بأي شيء ليحافظ على بقائه؛ وهي كذلك ليست كسوريا أو تركيا، فالدور الجيوسياسي الذي تلعبه ثانوي، كما أنها تتمتع بنقابات عمالية قوية بإمكانها التوسط بين الطرفين الإسلامي والعلماني. وتتمتع بقانون انتخابي يمكّن للحكومات الائتلافية. كما صدر الدستور الجديد بعد مداولة مطولة ومدروسة – وغير إقصائية، وهو ما يعني أن الصعوبات السياسية التي تواجه تونس لا تُذكر إذا قورنت بتلك التي تواجه شقيقاتها من الدول العربية.

المشكلة الرئيسية في تونس تتركز بشكل رئيسي في الاقتصاد: ولن يكلفنا شيئا – كأوروبيين – أن نتدخل باتفاقيات تجارية أفضل، بدلا من الاكتفاء بمنح جائزة نوبل وإرسال إشارات التقدير. إذا لماذا نقف ساكنين بينما يقتل التونسيون أنفسهم؟ أو تقذفهم الأمواج موتى على جزرنا؟ لماذا نقف ساكنين نشاهد الأعلام السوداء يتزايد عددها والجهاديين يرسخون وجودهم؟ لماذا ننتظر إلى أن ينهار كل شيء؟

لأننا في نهاية الأمر لا نكترث البتة، لا نكترث للديمقراطية أو للدفاع عن الحرية، فخلال هذه السنوات الخمس، كان اختيارنا واضحا: أن نحمي الاستقرار فقط مهما كان الثمن، على الرغم من إدراكنا أن الشرق الأوسط ليس مستقرا لأنه قوي ومتماسك، بل لأنه قد أخمد بالقوة. وما نسميه نحن استقرارا، يُسمى هنا قمعا. ولكن هدفنا الوحيد هو احتواء القاعدة، أو ما تتطور إليه مع مرور الوقت، الدولة الإسلامية، خليفة اليوم الذي يجوز ويعد مشروعا كل فعل ضدها، لكن الهدف هو احتواؤها وليس هزيمتها، لأنها في الواقع مفيدة لنا، لأنها تسمح لنا بتبرير كل ما يحدث في حالة لانهائية من الطوارئ؛ تسمح بالتحرك دون موافقة من الأمم المتحدة أو البرلمانات، ودون تأييد الحكمة؛ تسمح لنا دون أي نقاش مفتوح أن نقصف دولا لا نستطيع حتى تحديد موقعها على الخريطة: والأهم من ذلك أنها تسمح لنا بالإبقاء على العالم العربي مقسما، نعم داعش هي العدو المثالي.

إن ما ندافع عنه حين ندافع عن الاستقرار هو استمرارية العلاقات التجارية مع حلفائنا وشركائنا المحليين. إيطاليا تدعم السيسي لأن لديها في مصر استثمارات تقدر بـ 2.6 مليار دولار؛ هذا كل ما في الأمر، وفي الوقت الذي يتعرض فيه باحث الدكتوراه الإيطالي المنتمي لجامعة كامبردج البريطانية “جوليو ريجيني” للتعذيب والقتل، وربما لنقل جثته في شاحنة من إنتاج “إفيكو” إيطالية يقودها موظف أمن يحمل طلقات “فوتشي” الإيطالية داخل مسدس “بيريتا” الإيطالي الخاص به؛ كانت بعثة من 60 شركة إيطالية في القاهرة تستعد لتحصيل عوائد الاستقرار.

نعم مقابل حزمة من النقود، تقبل إيطاليا بأن يقال لها أن “جوليو ريجيني” كان جاسوسا، أو أنه ينتمي للإخوان المسلمين أو أن هناك مؤامرة صهيونية أو أنه قُتل في حادث انتقام شخصي؛ أو في حادث سيارة، أو ربما سقط من أعلى الدَرَج.

نعم مقابل حزمة من المال، باعت إيطاليا ليس فقط المبادئ، ولكن الكرامة أيضاً.

في كل مرة أكتب عن مصر، عن سوريا، عن العراق، أجد من يقول: العرب غير مستعدين للديمقراطية، وأن ليبيا كانت أحسن حالا تحت حكم القذافي.

ولكن حتى وهي تحت حكم القذافي كانت إيطاليا شريكها الاقتصادي الأكبر، ومورد السلاح الأكبر لها.

وأمام هذا وذاك أقول لكم أن الحقيقة هي أننا نحن لسنا غير مستعدين للديمقراطية في الشرق الأوسط.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close