fbpx
قلم وميدان

تركيا والاتحاد الأوروبي ونظرية المؤامرة

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

ثمة تقدم ملحوظ لليمين السياسي في مختلف دول العالم سيما في أوروبا، وتركيا ليست استثناء على هذه الصعيد. حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ 2002 والمحسوب على يمين الوسط يبدو منذ فترة في تحالف غير معلن مع حزب الحركة القومية اليميني بحكم توافقهما على عدد من الملفات المهمة التي تواجه تركيا، وفي مقدمتها مواجهة حزب العمال الكردستاني والملف الكردي ككل ومواجهة المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب والدستور الجديد.

هذا التوافق أو التحالف غير المعلن أدى إلى سياسات ومواقف أقرب لليمين منها لمسيرة حزب العدالة والتنمية على مدى 14 عاماً، بل انعكست أيضاً على خطاب الرئيس والحزب الحاكم والحكومة، وصولاً إلى أمور رمزية لا تخفى دلالتها مثل إطلاق عدد من الوزراء والمسؤولين “شاربهم” على الطريقة “القومية” وليس على الطريقة “المحافظة”، ومنهم وزير العدل بكير بوزداغ ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان ووزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو والنائب السابق لرئيس الوزراء يالتشين أكدوغان ووزير الداخلية السابق أفقان آلا.

على مستوى التصريحات ثمة حدة واضحة في الخطاب الرسمي التركي (ونزوح نحو الشعبوية أحياناً) ساهم فيها تزامن الأزمات الكثيرة على تركيا وفي مقدمتها المحاولة الانقلابية الفاشلة والعمليات الإرهابية والتطورات في سوريا والعراق وتوتر العلاقات الخارجية مع الحلفاء الغربيين والأزمة الاقتصادية، وكان للاتحاد الأوروبي حصة الأسد في هذه الحدة والتوترات على مدى الأسابيع القليلة الماضية.

يتساءل المرء أحياناً وهو يطالع تصريحات المسؤولين الأتراك: هل تريد أنقرة فعلاً الانضمام للاتحاد الأوروبي وحينها كيف نفسر سقف الخطاب ومفرداته؟ أم لم تعد ترغب بذلك وبالتالي فلم الإصرار على مسيرة العضوية؟ لكن، أليس هناك ما يفسر هذا المنحى التركي مؤخراً من جهة الاتحاد الأوروبي نفسه؟

أعتقد أن ثلاثة أسباب رئيسة تساهم في بلورة هذه المواقف والتصريحات الحادة من أنقرة تجاه بروكسل، هي:

أولاً، ملف العضوية:

حيث تنتظر تركيا على أبواب الاتحاد الأوروبي منذ أكثر من 50 سنة، وبدأت مفاوضات الانضمام للاتحاد في 2005 دون أي تقدم يذكر. حيث فتحت مؤسسات الاتحاد أمام تركيا حتى الآن 16 فصلاً فقط من فصول التفاوض لم تغلق (تقبل) إلا واحداً منها فقط، بينما يستمر “الفيتو” من عدة دول أوروبية على فتح حوالي 8 فصول في ظل نظام أساسي يشترط إجماع كل الأعضاء على فتح ثم إغلاق كل فصل على حدة، بما يعني أن دخول تركيا للاتحاد شبه مستحيل عملياً. ولعل أهم دليل عملي على ذلك تعثر تحرير تأشيرة شينغن للمواطنين الأتراك رغم الحاجة الأوروبية الملحة لتعاون تركيا في ملف اللاجئين.

أسباب هذا الفيتو الأوروبي كثيرة ومتعددة، منها السياسي والاقتصادي لها علاقة بعدد سكان تركيا ويدها العاملة وقوتها الاقتصادية ومرجعية قيادتها السياسية، لكن منها أيضاً الثقافي والأيديولوجي وحتى الشعبوية، مثل النظر لها على أنها “دولة مسلمة” واعتبار الاتحاد الأوروبي “نادياً مسيحياً” على لسان الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان وتركيز عمدة لندن السابق ووزير الخارجية البريطاني الحالي بوريس جونسون على مخاطر انضمام تركيا في حملة “البريكسيت” قبل أشهر.

 

ثانياً، الموقف من الانقلاب

وهنا لا أتحدث فقط عن المواقف الأوروبية التي اعتبرتها أنقرة متأخرة ورمادية ليلة الانقلاب، ولا حتى عن انتقادات مسؤولي الاتحاد والدول الأوروبية للإجراءات التركية بعده. بل أقصد “احتضان” الاتحاد الأوروبي والكثير من دوله ضباطاً متهمين بعضوية “الكيان الموازي” والتواطؤ في المحاولة الانقلابية. منها مثلاً ألمانيا التي هرب إليها عدد كبير من القضاة والمدعون العامون المحسوبون على كولن واليونان التي ترفض حتى الآن تسليم ثمانية ضباط لجأوا إليها ليلة الانقلاب بذريعة “تعرض حياتهم للخطر” حال تسليمهم لتركيا.

أكثر من ذلك، أظهر تحقيق رسمي تركي حول الضبط الأتراك في الناتو قام به “مكتب التحقيق في جرائم انتهاك النظام الدستوري” ونشرته صحيفة يني شفق في التاسع من الشهر الجاري أن 237 من الضباط الأتراك العاملين في قواعد حلف شمال الأطلسي المختلفة والبالغ عددهم 462 إما أعضاء في الكيان الموازي أو متهمون بذلك، وأن 200 منهم على الأقل رفضوا التجاوب مع طلب السلطات التركية عودتهم للتحقيق معهم. هذا التقرير لا يظهر فقط مدى تغلغل المحسوبين على جماعة كولن في منظومة الناتو، لكنه يؤكد أيضاً ضعف التعاون الأطلسي والأوروبي مع أنقرة في هذا الملف، وهو ما يعطي بعض المصداقية لسردية التواطؤ الأوروبي مع الانقلاب.

 

ثالثاً، الأكراد

تتعامل مؤسسات الاتحاد الأوروبي المختلفة مع أنقرة بوصائية واضحة سيما في الملف الكردي، ولذلك سياقات مفهومة بالنظر إلى موقع تركيا كدولة راغبة في عضوية الاتحاد وتخضع لرقابته إضافة إلى أهمية الملف الحقوقي والديمقراطي في مسيرة الانضمام والحضور الكردي البارز في القارة العجوز.

بيد أن الأمر يتخطى ذلك بشكل واضح في سياقات أخرى مهمة. فرغم أن الاتحاد الأوروبي يصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، إلا أن استضافة مؤسسات الاتحاد -سيما البرلمان الأوروبي -شخصيات محسوبة على الحزب أو مَعارض ترفع صور زعيمه المعتقل في تركيا عبد الله أوجلان أو صور وأسماء منفذي الهجمات الانتحارية في تركيا أمر بات يتكرر كثيراً في الفترة الأخيرة.

خلال اليومين الماضيين استضاف البرلمان الأوروبي ندوة بعنوان “الاتحاد الأوروبي، تركيا، الشرق الأوسط، والأكراد” في المؤتمر الثالث عشر للبرلمان حول القضية الكردية استضاف فيها النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) عثمان بايدمير، وزعيم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سوريا صالح مسلم وآخرين.

وبغض النظر أكان غياب وجهة النظر التركية بسبب عدم الدعوة من قبل البرلمان أو رفضها من قبل الحكومة التركية، إلا أن مخرجات المؤتمر التي وقع عليها نواب البرلمان تضمنت دعوات لإخراج الكردستاني من قائمة الاتحاد للمنظمات الإرهابية ودعم إقامة إدارات ذاتية في مناطق الأغلبية الكردية في تركيا وإطلاق سراح عبد الله أوجلان. وهي توصيات تستفز دوائر صنع القرار في تركيا بطبيعة الحال، سيما وأنها تأتي بعد أقل من 48 ساعة على العملية الانتحارية المزدوجة في إسطنبول والتي ذهب ضحيتها 44 شخصاً وتبنتها منظمة “صقور حرية كردستان” إحدى واجهات أو أذرع حزب العمال الكردستاني.

خلاصة:

ثمة سياسات أوروبية ضاغطة جداً على تركيا ومتجاهلة تماماً لمصالحها ومواقفها في ثلاث قضايا تعتبر من الأهم بالنسبة لها في الوقت الراهن، وهي القضية الكردية ثم الانقلاب وملف الكيان الموازي إضافة إلى ملف العضوية في الاتحاد.

بهذه النظرة، يمكن للمرء أن يعطي بعض الحق للساسة الأتراك في شعورهم بالمرارة و/أو الغضب من التعامل الأوروبي معهم بغض النظر عن مدى تأييده لحدة الخطاب وهجوميته، بل هناك الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تدعم إلى حد ما الاتهامات التركية لحلفائها الأوروبيين (والغربيين بشكل عام) باستهدافها ومحاولة زعزعة استقرارها ولو وصل الأمر ببعضهم لدعم محاولة انقلابية على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً.

هذه السياقات تغذي أكثر فأكثر المحاولات التركية للتوجه شرقاً ورغبة روسيا باحتواء أنقرة بعيداً عن حلفائها التقليديين أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ولئن مرت قمة المجلس الأوروبي دون الالتفات لتوصية البرلمان قبل أسابيع بتجميد مفاوضات انضمام تركيا وبالتأكيد على التزام الاتحاد باتفاق إعادة اللاجئين معها، إلا أن ذلك لن يفيد كثيراً لإذابة الجليد بين الجانبين طالما استمرت السياسات الأوروبية الحالية في استفزاز تركيا في هذه الملفات الحساسة جداً، سيما وأن الأخيرة تمر في مرحلة تتزامن فيها العديد من الأزمات الداخلية والخارجية، سياسية واقتصادية وأمنية، وبالتالي فليست في وارد ولا تملك رفاهية تقديم علاقاتها مع الاتحاد على ما تعتبرها ضرورات أمنها القومي ومصالحها الحيوية.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close