fbpx
دراسات

الربيع العربي: خارطة طريق للمستقبل

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة

انطلقت ثورات الربيع العربي، في بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية، وفرت المناخ المناسب لانفجار الثورة واشتعالها بشكل متصاعد ومتزامن، في ظل تراكم مؤشرات الفساد والاستبداد والحكم القمعي، وهيمنة شاملة على مقدرات الإقليم وثرواته وإرادته المستقلة، لأطراف دولية بأدوات إقليمية ومحلية.

انطلقت الثورات حاملة معها مطالب الناس وأحلامهم وطموحاتهم، ساعية نحو تغيير جذري في المنظومات السائدة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية والأخلاقية، وأمام هذه الآمال والطموحات، ومع نجاح الثورات في بداياتها، في تحقيق انتصارات نوعية، في فترات زمنية قليلة (الإطاحة بزين العابدين بن علي في تونس في أقل من شهر، ثم الإطاحة بحسني مبارك في مصر في 18 يوم، بجانب تقدم للثوار في سوريا وليبيا واليمن) برزت فى مواجهة الثورات الشعبية، ثورتان؛ ثورة في التوقعات والطموحات لدى الجماهير أمام اتساع الآمال في التغيير، وثورة مضادة تقف خلفها قوى النظم القديمة و من يدعمها، و التي هددت الثورة مصالحها، ونالت من مكتسباتها.

لقد وُلدت ثورات الربيع العربي مُحملةً بثورة مضادة ليس فقط داخل دول الثورات، ولكن ثورة مضادة في عموم الإقليم، مدعومة من أطراف دولية وإقليمية، وجدْتَ في هذه الثورات تهديداً حقيقياً لمصالحها ونفوذها ورغبتها في استمرار تبعية دول المنطقة ونظمها وشعوبها لتدور في فلكها، في إعادة جديدة بآليات جديدة للاستعمار ومنظومته.

وفي إطار هذه الاعتبارات تقوم هذه الورقة على تناول محورين أساسيين، الأول: الربيع العربي بعد 6 سنوات: الواقع وتحدياته، الثاني، الربيع العربي: الآفاق والمسارات المستقبلية

 

أولاً: الربيع العربي بعد 6 سنوات: الواقع وتحدياته

لقد كسرت الثورات العربية حاجز الخوف في المجتمعات العربية وأسست لتاريخ جديد لا يمكن التراجع عنه، وأعادت العرب إلى التاريخ بعد أن كانوا خارجه لعدة قرون عانوا خلالها من الاستعمار والاستبداد والهيمنة والتبعية، وأصبح من المؤكد استناداً لكثير من المؤشرات أن هذه المنطقة، والنظم السياسية والاجتماعية التي تحكم دولها، لن تعود لما كانت عليه قبل هذه الثورات، وأن المسار الثوري، طال أم قصر، سيقود فى النهاية لإقامة نظم سياسية أكثر قوة وفاعلية، وأكثر تعبيراً عن إرادة شعوبها وتحقيقاً لآمالهم وطموحاتهم.

ونظراً لأن الثورات العربية لم تكتمل مراحلها ولم تنجز كامل أهدافها ولم تستقر بعد، فإن الوقت لازال مبكرا لإعطاء حكما قاطعا حول مدى تأثيراتها في البنية الاجتماعية والنظم السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية للمنطقة العربية.

وفي إطار هذه الاعتبارات، وبعد رفع الواقع القائم وعمل تقدير دقيق للموقف في دول الثورات العربية بعد 6 أعوام من قيامها، تبرز مجموعة من المظاهر والتحديات، من بينها:

1ـ انفراط قواعد الحياة العامة ونظم الأمن السابقة:

فقد صاحب الثورات الشعبية، ومع توسع النظم السياسية التي استهدفتها هذه الثورات في استخدام القوة، والإفراط في العنف والقمع والقهر، إلى انفراط قواعد الحياة العامة ونظم الأمن في هذه الدول مقارنة بما كانت عليه قبل 2011.

ومع هذه الانفراط برزت أهمية الحاجة إلى إعادة بناء هذه المؤسسات بوصفها الضامن لانتقال سلمي للسلطة نحو مرحلة الديمقراطية والحرية في البلاد، وخاصة بعد ما كشفت عنه الثورات العربية من ترهل وتدهور وتفشي الفساد في هذه المؤسسات وما تقوم عليه من ممارسات.

2ـ تحدي التجانس:

عانت الدول العربية لعشرات السنوات من عمليات تجريف متعمد للحياة السياسية، بل والاقتصادية والاجتماعية، وانحصرت النخب إما في عائلات بعينها أو في جماعات مصالح محددة أو في حزب واحد مهيمن، أو في مؤسسات عسكرية أعطت لنفسها الحق في الهيمنة على مقدرات الدول والشعوب، وهو ما ترتب عليه تحدى سياسي واجتماعي وثقافي كبير واجه ثورات الربيع العربية، فظهرت القوى السياسية التي قادت هذه الثورات، أو تلك التي أفرزتها هذه الثورات، عبارة عن كيانات غير متجانسة، تعصف بها التناقضات، ليس فقط على مستوي دول الإقليم ولكن على مستوي الدولة الواحدة، بل على مستوي الفصيل أو الكيان الواحد.

3ـ تعدد المشكلات البنيوية في دول الربيع:

الثورات والانتفاضات أنعشت الولاءات الأولية (القبلية والطائفية والعرقية والدينية والجهوية)، بما انعكس سلباً على مفهوم وكيان الدولة الوطنية في هذه البلدان، هذا بجانب وجود معوقات ترتبط بالبنية الفكرية والسياسية لهذه المجتمعات، برزت في ردود فعل سلبية تجاه العمليات الثورية.

4ـ تحدي بقايا النظم السابقة:

كان من الصعب على ثورات الربيع العربي في ست سنوات أن تتخلص من منظومات كاملة ومهيمنة على مختلف المقدرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية، ترسخت خلال عشرات العقود، وأمام سياسات الانتشار والهيمنة، من ناحية، وإفراط هذه المنظومات في استخدام أدوات القوة والقمع، حفاظاً على مكاسبها ومصالحها التي تكونت هذه العقود من ناحية أخرى، لم تنجح الثورات خلال السنوات الست الماضية في استئصال جذور الأنظمة السابقة، وفي تطهيرها من رموز الفساد والتسلط، فهذه العناصر ما زال خطرها قائما وتجعل مسار التغيير صعباً وبطيئاً، كما أن الحشد والحشد المضاد أعاق عملية التحول إلى الديمقراطية.

5ـ تحدي الوضع الاقتصادي المتهالك وضعف وهشاشة أجهزة الدولة ومؤسساتها:

كان الوضع الاقتصادي المتهالك أحد أهم الأسباب خلف الثورات العربية، في ظل هيمنة نخب الفساد على الأوضاع الاقتصادية، وتدهور معدلات التنمية، وارتفاع في مؤشرات التضخم والفقر في معظم الدول العربية، ومع ثورة التوقعات التي صاحبت الثورات العربية، واجهت هذه الثورات تحديات كبيرة في الوفاء بما يجب عليها القيام به من إصلاحات على المستوي الاقتصادي، مما جعلها غير قادرة على القيام بوظائفها بفاعلية وكفاءة.

لقد بلغت النظم السياسية العربية أقصى حدود قدرتها على توظيف المزيد من الناس، وسداد الدين العام، واجتذاب المِنَح و المعونات الاقتصادية الخارجية، ومن المرجح أن يقاوم أعضاء النخب السياسية والاقتصادية في هذه الدول، الجهود الرامية إلى أي إصلاح حقيقي، مما يدفع نحو المزيد من المعارضة من الأجهزة البيروقراطية التي تفتقر إلى أي رؤية للانتقال إلى نموذج اقتصادي شامل ومستدام.

ومن غير الممكن أن تأمل دول الثورات في تطوير اقتصادات مزدهرة في غياب هذا التحول، فبعد الاعتماد على عائدات الموارد لعقود من الزمن، بات لزاما على هذه الحكومات أن تتحول ليس فقط إلى نماذج نمو جديدة، بل وأيضا إلى نموذج حكم أكثر تمثيلا. وعندما يُطلَب من المجتمعات العربية قبول إعانات دعم أقل، ووظائف حكومية أقل، وانتظار الأقل من الدولة في عموم الأمر، فسوف تطالب هذه المجتمعات بحصة أكبر في عملية اتخاذ القرار (1).

يزيد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية، في دولة مثل مصر، هيمنة المؤسسة العسكرية على مختلف القطاعات الاقتصادية، وهو ما تم التوسع فيه بعد انقلاب 3 يوليو 2013، فالتوسع في دخول القوات المسلحة المجال الاقتصادي يمثل أحد الأسباب التي تؤدي إلى تعميق الركود الاقتصادي. فقطاع واسع من النشاط الاقتصادي تهيمن عليه المؤسسة بنسب تتراوح بين 40% في أدني التقديرات و80% أو أكثر في تقديرات أخرى (ما يعبر عنه بابتلاع الدولة بمعنى أدق). وتملك المؤسسة العسكرية حق الانتفاع المتعدد بالمجندين إجباريا عبر توزيعهم على مشاريع الجيش الاقتصادية، لا العسكرية فقط، لكنها لا تقابل هذا الحق براتب أو أجر يخضع لمعايير سوق العمل، وهو ما يؤدي لنتيجتين تسهمان مباشرة في تعميق الانهيار الاقتصادي.

فمن ناحية، فإن قوة العمل في مثل هذا المجال من مجالات الإنتاج الاقتصادي لا تحصل على رواتب، وهو ما يصب في الحد من القوة الشرائية لقوة عمل منتجة، ويؤدي لتعزيز الركود، ومن ناحية ثانية، فإنه مع عدم حصول أولئك العاملين على أجور اقتصادية، فإنهم يقدمون منتجاً منافساً لمنتجات القطاع الخاص، فتزيد المنتجات المعروضة زيادة نسبية، وهو أمر يؤدي مع ضعف القوة الشرائية لضعف مستوى الأسعار والحيلولة دون تلبيته لتوقعات المنتجين، ما يدفعهم للانسحاب جزئيا من السوق عبر تعطيل خطوط إنتاج، وهو ما يسهم في تراجع الإنتاج (تضاؤل القدرة الإنتاجية للمجتمع)، فضلا عن أن إغلاق خطوط الإنتاج يتسبب في تسريح قطاع من العمالة، وهو ما يعني تراجع قدرتهم على شراء السلع والخدمات، ما يضيف بعد جديدا لأزمة الركود(2).

وقد دفعت هذه الظروف الاقتصادية بلدا مثل مصر للموافقة على الشروط المجحفة التي تفرضها عادة مؤسسات الإقراض الدولية (صندوق النقد الدولي في هذه الحالة)، مما كرس من الأوضاع الاقتصادية السيئة لقطاعات أوسع من الشعب بزيادة نسبة الفقر ومعدلات البطالة، فضلا عن انهيار قيمة العملة المحلية وبالتالي ارتفاع مستويات التضخم بشكل غير مسبوق فاقم من مستوى أزمة الركود الاقتصادي ليصبح ركودا تضخميا يحمل الكثير من عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي المحتمل في ظل هذه الظروف الصعبه.

6ـ أسلحة القوى والمليشيات التي ترتبط بفترة المواجهة والحرب:

تحولت الثورة في اليمن وسوريا وليبيا إلى ساحات للصراع والحرب المسلحة، مع تنامي أعداد الميليشيات العسكرية التي جاءت في جانبها الأكبر رداً على ممارسات النظم في قمع الثورات السلمية، إلا أنه مع انتشار السلاح، وغياب القيادة المركزية للقوى الثورية، تعددت الفصائل والجماعات وتصارعت فيما بينها، بما يشكل تحديا كبيراً ليس فقط أمام عملية التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي، وإنما أيضاً في إدارة هذا التنوع، وخاصة مع اعتقاد كل فصيل من هذه الفصائل في قدرته على حسم المواجهة، سواء في مواجهة النظام، أو في مواجهة باقي معارضيه.

7ـ تنامي قضايا الأقليات وإثارتها من جانب القوى الدولية:

تشكل ورقة الأقليات (الدينية، العرقية، المذهبية، الطائفية، الإثنية)، في حال فشل السياسات الداخلية في إدارتها، أحد أهم الأدوات التي تعتمد عليها القوى الخارجية في إدارة صراعاتها مع بعض الأطراف الأخري، يزيد من خطورة هذه الورقة في المنطقة العربية، أنه لا توجد دولة عربية تتسم بالتجانس الكامل، بل إن بعض الدول تتعدد فيها الأقليات ومعها تتعدد أنماط ومظاهر التدخل الإقليمي والدولي، ومع تبادل الاتهامات بالخيانة والتشكيك في الولاء والانتماء تستفيد أطراف الخارج في نشر سياسات التفكيك والتدمير الداخلي في هذه الدول.

إن مشاركة بعض الأقليات والطوائف المختلفة في ثورات الربيع العربي كانت من بين أهم العوامل التي ساهمت في زلزلة نظم الفساد والاستبداد، الأمر الذي يفرض على جميع القوي الثورية ترسيخ وتعزيز حقوق الجميع في وطن جديد، يكونوا شركاء حقيقيين في بناء حاضره ومستقبله، يجمعهم إيمانهم بوطن حر تكون الكلمة العليا فيه للشعوب لا لحكم الفرد أو القمع أو سيطرة منظومة المصالح الخاصة والفساد والاستبداد.

8ـ تعاظم دور القوى الأجنبية:

التى تسعى في ظل الأوضاع العربية الحالية إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية: إشاعة الفوضى وتقويض الأمن والاستقرار في الدول العربية، وتمزيق وحدة المجتمعات العربية وإثارة الصراعات الداخلية بين مختلف قوى المجتمع وخصوصا على أسس طائفية، وإضعاف استقلال الدول العربية وقدرتها على التحكم بمقاديرها، واستغلال هذا الصراع لصالح أهدافها الاستراتيجية، أو تستبدل كل ذلك بدعم غير محدود لسلطة مركزية قمعية تتحكم وتسيطر على الشعوب وثرواته وتكون تابعة لأجندات تلك القوى الأجنبية ومصالحها على حساب الشعب وأمنه ومصالحه.

9ـ تعاظم احتمالات تقسيم عدد من الدول:

وذلك على خلفية تطورات الثورات الشعبية والانتفاضات الاجتماعية التي شهدتها هذه الدول، وفي مقدمة هذه الدول كل من سوريا وليبيا واليمن الأكثر عرضة للتفكيك وإعادة التركيب، بعد العراق والسودان واللذان أصبح تقسيمهما أمراً واقعاً، ويأتي هذا استناداً إلى عدد من الاعتبارات الأساسية، أولها: ظهور وتمدد قوى التطرف والإرهاب – وخاصة داعش – والتي أصبحت تمثل تهديدا داخل المجتمعات الراغبة في التغيير، وكذلك تمثل تهديدًا إقليميا ودوليًا، وثانيها، ظهور فاعلين جدد من غير الدول علي ساحات هذه الدول، فهناك 15 قوة تقريبا تتنازع في العراق، و8 فصائل رئيسية في السودان، وعدة أطراف في فلسطين، ولبنان، وعدد لا يحصي من الفاعلين في الصومال(3)، بجانب عشرات القوى في سوريا واليمن وليبيا، وكذلك في مصر، وثالثها، ما أكدت عليه تحولات الربيع العربي خلال السنوات الخمس الماضية أن الصراعات التي تشهدها دول الربيع لن تبقى ذات طبيعة سياسية فقط، يقتصر الانخراط فيها على النخب التي تملك مشاريع وأجندات خاصة، لكن ممارسات النظم الاستبدادية والتسلطية والعسكرية سوف تدفع كل فئات المجتمع إلى الانخراط فيها.

10ـ الإسلاميون والديمقراطية:

أكدت تحولات السنوات الست الماضية، منذ بداية الثورات العربية وحتى الآن أن الجانب الأكبر من التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، كان أكثر إيمانا بقيم الديمقراطية، وأكثر حرصاً على ترسيخها وتعزيزها، مقارنة بعدد من التيارات السياسية ذات المرجعيات الليبرالية واليسارية والقومية والتى كانت هذه القيم بالنسبة لها أقرب إلى الشعارات منها إلى الرسوخ، وهو ما جعل بعض تلك التيارات تتحالف مع نظم الفساد والاستبداد وتستدعي المؤسسات العسكرية للانقضاض على استحقاقات الثورات الشعبية، كما حدث في الحالة المصرية في انقلاب يوليو 2013.

واستناداً لهذه الاعتبارات وغيرها، يخلص تقدير الموقف لحالة الربيع العربي، وفقاً لمعطيات الواقع الميداني، والمواقف السياسية الإقليمية والدولية من الثورات العربية، إلى ترجيح استمرار الوضع الحالي للصراع على ما هو عليه؛ الأمر الذي يؤكد عدم قدرة أي من الطرفين، لا قوى الثورة ولا النظم السياسية في دول الثورات أو قوى الثورة المضادة، على حسم الموقف أو تحقيق انتصار ساحق في مواجهة الآخر، لذا فان الصراع سيدخل، على المديين القريب والمتوسط، مرحلة الجمود أو التجميد على الأقل على الصعيد السياسي.

 

ثانياً: الربيع العربي: الآفاق والمسارات المستقبلية

إن الثورات العربية القائمة على خلفية عوامل الفقر والاضطهاد والتهميش ومصادرة الحريات الشخصية والعامة، سيبقي رهانها على المستقبل واضحًا وحاسماً وفاعلاً، في ظل مجتمعات عربية تشهد عملية تغيير جذري في الوعي والقيم، أمام عملية تثوير حقيقية لكل القطاعات وعبر كل المستويات، لم تستطع آلات القمع والبطش والاستبداد الحيلولة دون تناميها وتصاعدها.

لقد أظهرت ثورات الربيع العربي أهمية الحاجة للتغيير الحقيقي الجذري وليس لمطالب جزئية إصلاحية لا تؤثر في منظومة الفساد والاستبداد والحكم القمعي، كما أثبتت إرادة الملايين وصمودها وثباتها وإبداعها في مجال التغيير الثوري بعد عدة سنوات من اندلاع الثورات في مواجهة كل التحديات التي أمامها، أن ما كان يُوصف بالصعب أو المستحيل ليس إلا مجرد تحديات يمكن تخطيها بالعزيمة والإصرار وحسن التخطيط والعمل الدؤوب المبدع المتواصل، فالثورات ما قامت إلا للتخلص من هذا الواقع، وما تعمل الا على تجاوز كل المعوقات والتحديات حتي يتحقق ذلك.

إن نظرة متفحصة لحال الأمة العربية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المستقبل للثورات وإرادة الشعوب، فإرادة المستبدين وحلفاؤهم لم تقدم أي شئ على أي صعيد لشعوبها ولا بلادها، وتشهد المؤشرات الاقتصادية والخدمية والتنموية والصناعية والزراعية والتعليم والبحث العلمي بذلك.

إن شرارات الربيع العربي أثبتت أن أعمدة نظم الاستبداد والفساد والظلم ليست قوية كما هي ظاهرة حتى وإن تسلحت بالرصاص والقنابل، فقد نجحت تلك الشعوب في لحظات فارقة أن تقوض تلك المنظومة وتضعفها وكادت أن تقضي عليها ، والمتأمل لحال الشعوب العربية يدرك أن الربيع العربي لم يكن مجرد لحظة طارئة أو حالة عابرة بل هو رغبة اصيلة متجذرة تنبئ ان المستقبل لها لا للقشرة المستبدة الحاكمة.

إن التأمل الدقيق لعمق المطالب العادلة وتجذرها في المجتمعات العربية التي جهرت بها وثبتت عليها بجعلنا ندرك أن النظم المستبدة عاجزة عن مواجهة تلك المطالب وعاجزة عن تعطيل وتأخير هذا المستقبل المنشود، لذا فهم لا يملكون إلا إعادة تدوير أدوات حكم بالية قديمة أملا أن تخدع الشعوب وتخدرها تحت وطأة مداعبة الأحلام بوعود زائفة أو تخويفهم بالقمع والترهيب، لكن تتابع الأحداث وتفاقم الأزمات وتزايد الوعي المجتمعي وتزايد النخب والقوى الحية جعل من تلك الخدع أمرا سريع الانكشاف مما يفسر بعضا من أسباب قوة عزائم الثائرين حتى الآن.

وإذا كان الواقع ينبئ عن ضعف بنيوي وانهيار وشيك في منظومات الفساد والاستبداد، وينبئ أيضاً عن حركة المجتمعات التي تحركت نحو المستقبل وتلمست بعضا من مطالبها ولم تعد تطيق صبرا الجلوس والخنوع، كما يؤكد عن الوعي بوجود أمة واحدة متقاربة رغم الحدود والتقسيمات، إلا أن الهموم واحدة والآمال مشتركة بل وحالتها الثورية ورغبتها الثورية واحدة وظاهرة دون اتفاق أو تنسيق.

إلا أنه حتى تتحول هذه الآمال إلى حقائق فإن الأمر يتطلب مراعاة عدد من الاعتبارات، وتبني عدد من السياسات والإجراءات:

المستوى الأول: الاعتبارات الأساسية:

1ـ إن محاولة الانتقال من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي متقدّم عن طريق الانتخابات وحدها، محكومة بالفشل في ظل استقواء القوى المتربصة بالتغيير في المنطقه. وعليه، لا بدّ في مرحلة ما من التمعّن وإدراك أن الانتخابات ليست أساس الديمقراطية، بل أحد مظاهرها، وأن استدامة الاصلاح السياسي بعد الشروع فيه، تتطلّب الاسترشاد بمبدأ أساسي موجِّه يقوم على اتّباع مقاربة التدرّج الذكي في عمليات الإصلاح ما بعد الثورات.

2ـ إذا كانت استدامة الإصلاح السياسي هي الهدف الأساس، فلا بدّ من توفّر قاعدة من المؤسسات القوية التي تصون المبادئ الديمقراطية الأساسية، حتى في غياب الانتخابات. كما أن حرية التعبير وشفافية الإدارة عنصران جوهريان لنظام أكثر ديمقراطية، لأنهما يُمثّلان مدخلاً لتحقيق إصلاحات إضافية.

3ـ لقد أتاح تفكّك العديد من الدول العربية لكثيرٍ من البلدان فرصاً جديدة لخدمة مصالحها الخاصة من خلال مساندة حلفاء محليين. وشمل هذا التدخل التمويل المُعلَن والخفي، وتسليح الحلفاء المحليين، والحملات الإعلامية من خلال المنافذ الإعلامية المحلية والعابرة للحدود، وفي بعض الحالات من خلال العمل العسكري. وأدّت هذه الممارسات إلى خلق “حروب بالوكالة”، ورسمت معالم السياسات المحلية. لذلك فإن أية محاولة لمعالجة المشاكل المحلّية ستفشل ما لم تأخذ هذا في الاعتبار.

4ـ إذا كانت الدول والمجتمعات العربية تتجة إلى الديمقراطية والانفتاح وإنهاء الحروب الأهلية وتغليب الاعتبارات الوطنية والإصلاحية، فإن التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي تؤمن بالمزيد من الديمقراطية والاندماج هي التي ستسود، والعكس صحيح، إلا أن المؤشرات الأولية لا تدعو إلى الاطمئنان على المدى القريب. فحتى لو تمكّن التحالف الدولي من القضاء على تنظيم داعش عسكرياً، فإن من الممكن أن تصعد نسخة جديدة أكثر خطورة طالما أن الشروط السياسية والمجتمعية متوافرة، والدولة العربية تعاني من أزمات داخلية تعصف بكل مكوناتها، وتمتد في تأثيراتها وتداعياتها إلى معظم دول الإقليم.

5ـ إن فك الروابط بين أنظمة السيطرة السياسية والاقتصادية يتطلب نماذج سياسية اقتصادية جديدة، وبناء ثقافة للتشاور والحوار تتمحور فيها الائتلافات السياسية حول أهداف محدّدة تجري متابعتها من خلال سياسات متماسكة، وفي الدول المركزية التي يمزّقها التناحر والصراع، ومنها ليبيا وسورية واليمن، قد يكون من الضروري استحداث آليات دستورية تتيح للمناطق والمجتمعات المحلية تدبير أمورها وتمنح حماية حقيقية للأقليات.

6ـ على الرغم من القيود والصعوبات والتحديات الكبيرة في كثيرٍ من البلدان العربية، حقّق المجتمع المدني مستويات مهمة من النضج السياسي، بمما يعني أن روح الثورات العربية لم تُهزم تماماً، كذلك بدأت بعض النظم تتقبّل ضرورة تحديث العلاقات بين الدولة والمواطن، وهي أمور من شأنها أن تؤدي إلى تعزيز الاستقرار وإلى حوكمة أفضل. غير أن الأمل في قيام مجتمعات مزدهرة بصورة مستدامة وتجديد العالم العربي، لا يمكن تحقيقه إلا بتوفّر التزام حازم بالتعددية بجميع جوانبها، وحق الجميع في المشاركة السياسية السلمية، وعدم احتكار الحقيقة أو السلطة، وترسيخ التداول السلمي للسلطة بصورة كاملة في الدساتير والممارسات السياسية على السواء(4).

المستوى الثاني: السياسات والإجراءات:

على القوى الحية التي تسعى لمستقبل أفضل والتي تؤمن بضرورة التغيير الجذري والتطهير الحقيقي، تبني عدد من السياسات والإجراءات، في مقدمتها:

  1. تعزيز دور الشعب في مواجهة قوى الثورة المضادة وقوى الاستبداد والفساد في الداخل والخارج، وهو ما يفرض على القوي الثورية تنسيق الجهود، وتوزيع الأدوار وحسن الاستفادة من الإمكانات والقدرات ليس فقط داخل كل دولة من دول الربيع العربي على حدة، ولكن في إطار من التشبيك مع القوي الثورية في هذه الدول، بل والعمل على خلق شراكات حقيقية وراسخة مع كل القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية، في كل دول العالم، في مواجهة كل نظم الفساد والاستبداد والتسلط.
  2.  إعداد قيادات جديدة لخوض غمار التغيير الثوري، قيادات قادرة على نشر الوعي الحقيقي، وتثوير مختلف الفئات والمستويات، في ظل ائتلافات حقيقية – لا شكلية – وكيانات متماسكة، وبناء جبهات ثورية، ليس فقط لحماية الثورة، ولكن لتحقيق وترسيخ عمليات التغيير الجذري.
  3.  ضرورة التقييم الجاد للرؤى والأفكار ومسارات العمل وآلياته، والنظر الجدي في أية اعتبارات مطلوبة وفق مقتضيات المرحلة وما بها من تغيرات كبيرة وسريعة ، وعدم القبول بأية مبررات لتسويف عمليات التقييم والمراجعات .
  4.  الحرص والاهتمام بالمرجعية الدينية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لأن استبعاد الدين بأي شكل من الأشكال، أو جعله مادة للخلاف بين القوى السياسية المتصارعة، محكوم عليه بالفشل، ويترتب عليه من المخاطر أكثر مما يترتب من مكاسب لأي فريق، فهو مصدر تعبئة لجهود المواطنين من أجل تغيير حضاري يُرسي نظام ديمقراطي مدني ويبني تنمية شاملة.
  5. تبني سياسات من شأنها تحييد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي حتى تضمن الثورات مزيدا من القدرة على الاستمرار والفاعلية في تحقيق أهدافها، فالمؤسسة العسكرية أداة قادرة على إغراق أي ثورة في بحور من الدماء والفوضي والتنكيل بكل القوي والعبث بكل المقدرات، كما حدث في ليبيا وكما يحدث الآن في سوريا، وكما شهدت مصر في مجزرتي رابعة والنهضة وغيرها.
  6. الإعداد الجيد لإعادة الهيكلة السريعة والفاعلة للأجهزة الأمنية وتفكيك آلات القمع والقهر، من خلال تبني استراتيجية محددة الأركان، واضحة السياسات، سعياً نحو احتواء وتطهير الأجهزة الأمنية وفصلها عن قوى الثورة المضادة، مرحلياً، وصولاً لإصلاح عقيدتها الأمنية والعسكرية التي تنال من كل الحقوق والحريات.
  7. العمل على تحييد العامل الخارجي: أمام طبيعة الدور الذي قامت به القوى الخارجية (الإقليمية والدولية) في دعم الثورات المضادة ودعم أركان النظم التي قامت ضدها الثوارت في دول الثورات العربية وخاصة في التجربة المصرية تأتي أهمية تبني عدد من السياسات التي من شأنها تحييد دور هذا العامل، والذي جاء مرتبطاً بطبيعة التداعيات التي أفرزتها، أو يمكن أن تفرزها هذه الثورات إقليمياً ودولياً، حيث تختلف التداعيات الإقليمية والدولية باختلاف زوايا النظر إليها، وباختلاف الدولة التى قامت فيها الثورة، وباختلاف الأطراف المباشرة المعنية بهذه الثورة، حيث تختلف درجة هذه الاهتمامات من ثورة إلى أخري، فما يهم الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والاتحاد الأوروبي من مصر مثلا هو التزامها باتفاقيات كامب ديفيد، وعدم تحرير إرادة الشعب وسيطرة الإسلاميين علي النظام الجديد، وما يهم الاتحاد الأوروبي من ليبيا هو استمرار تدفق النفط، ومن تونس التصدي للهجرات غير الشرعية وعدم وصول الإسلاميين للحكم، ووقف انتقال العدوى الثورية لباقي دول المغرب العربي، … وهكذا.

وحتي يمكن للثورات العربية التعاطي بفاعلية مع هذه الأبعاد، وتحييد دور العامل الخارجي في دعم الثورات المضادة والنظم السابقة، تأتي أهمية التأكيد على أن هذه الثورات تمثل بداية عصر جديد للشعوب العربية التي استعادت ثقتها بنفسها، وبداية لتشكيل أوضاع إقليمية جديدة، تراعي مصالح الدول والشعوب العربية بالمقام الأول، أوضاع من شأنها الحد من استراتيجيات الهيمنة والوصاية والتدخل التي مارستها وتسعي إلى الاستمرار في ممارستها بعض القوى الدولية، خاصة وأن استكمال هذه الثورات لنجاحاتها من شأنه أن يحول بين أي سلطة عربية جديدة والعودة إلي سياسات التبعية للخارج وإلي القمع والاستبداد في الداخل.

  1. ترسيخ الاستقلال التنظيمى للجماعات المكونة للمجتمع: فالوجود الشرعى للأحزاب السياسية والجماعات ذات المصالح واندماجها فى نظام دستورى مشروع يمثل قيمة أساسية لتعزيز الحرية والديمقراطية، الأمر الذى يعنى أن التعددية تنطوى على التسامح والقبول بحكم الأغلبية والحكومة المقيدة وحماية الحقوق الأساسية.
  2. التمثيل المكثف للمصالح المتعددة الخاصة والعامة داخل إطار الحكومة وتأثير جماعات المصالح الخاصة سياسيا وإداريا من خلال أساليب عمل جماعات الضغط والتمثيل المباشر فى بعض الهيئات ومشاركتها فى صنع القرارات في بعض الإدارات العامة.
  3. التأكيد على أن الروابط والعلاقات بين الأفراد والجماعات هى الأساس، والدولة ليست سوى تعبير عن هذه العلاقات التكاملية، وأساس هذا التكامل هو الالتزام بالقيم المشتركة والإحساس بالانتماء المجتمعى واحترام القانون والاعتقاد بنزاهته والاعتدال فى العمل السياسى والالتزام بالعمل التدريجى، والحفاظ على التماسك الاجتماعى الذى ينبع من الرضا والاتفاق بين الأفراد والجماعات، واعتماد الوسائل السلمية لتغيير نمط العلاقات السائدة.
  4. يتعيّن على البلدان العربية أن تركّز على بلورة هُويات وطنية قوية قادرة على استيعاب جميع الولاءات الأخرى. وينبغي النظر إلى التنوع الثقافي، والإثني، والديني في العالم العربي بوصفه مصدر قوة لا ضعف. ويعني ذلك أن على الحكومات أن تُنمّي إحساساً بالمواطنة يُعلي من شأن التنوّع، عوضاً عن تشجيع أشكال ضيقة من الشعور القومي تؤكّد تفوّق فئات معينة على فئات أخرى. ومن العوامل الحيوية في تعزيز المواطنة الإقرار والاعتراف بحقوق المرأة، بجعل هذه الحقوق جزءا أصيلاً لا يتجزّأ من الدساتير والتشريعات.
  5. ينبغي أن يُطبَّق حكم القانون على الجميع بالتساوي، سواء كانوا من الأغلبيات أو الأقليات، ولكن لا يكفي الالتزام بالتعددية كشرط وحيد لضمان الاستقرار والازدهار في العالم العربي، إلا أنه خطوة ضرورية أولى لوضع بلدان المنطقة على المسار الصحيح المؤدّي إلى تحقيق هذه الأهداف الأساسية.

 

خلاصة:

لقد قامت ثورات الربيع العربي كعمل شعبي خالص نتيجة لتراكم نضال طويل، في وقت تراكم فيه العجز والفشل والتدهور في منظومات الفساد والاستبداد. ورغم ما تواجهه هذه الثورات من تحديات إلا أن الواقع يدلل على قدرتها على تجاوز تلك التحديات، وأن ما أنجزته، رغم محدوديته، مقارنة بأهدافها، يمكنها أن تـُتمّه وتحققه وتحميه، بما اكتسبته من خبرات وقدرات أمام منظومات فاسدة تملكتها عوامل الضعف والانهيار، وهو ما يتطلب العمل الجاد على تقليص التأثيرات السلبية للانتماءات الضيقة على عملية التحول الديمقراطي، وتعزيز وحماية قيم المشاركة السياسية من خلال التحرك بفاعلية لبناء ثقافة للعيش المشترك تستند إلى تكريس أسس ومبادئ المواطنة، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية.

ومن الضروري كذلك العمل على إعادة بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها -وبخاصة الأمنية -على أسس جديدة، بل وإعادة تأسيس مفهوم الدولة وشرعيتها في الوعي الجمعي لمختلف الفئات والتكوينات الاجتماعية التي تعيش على أراضيها، بحيث تستقطب تدريجياً الولاء الأسمى لمواطنيها.

وأن تعمل قوى الثورة الحية الصلبة على إنجاح عملية التحول الديمقراطي من خلال تطوير فعلها الثوري وخطاباتها السياسية، وتحديث ِهياكلها التنظيمية، وتوسيع قواعدها الاجتماعية من خلال ممارسة العمل الثوري والسياسي بين الجماهير وليس عبر وسائل الإعلام، سعياً نحو بناء وتعزيز وترسيخ الإرادة الشعبية، التي تشكل الضامن الأكبر لإنجاح الثورات (5).

—————————————–

الهامش

(1) المعشر، مروان، إنذار اقتصادي أخير للعالم العربي، مركز كارنيجي، 16 نوفمبر 2016، النص متاح على الرابط.

(2) فؤاد، وسام، مصادر الركود في الاقتصاد المصري، تقديرات اقتصادية، المعهد المصري للدراسات، 31 يوليو 2016، النص متاح على الرابط، تاريخ الزيارة 1 أبريل 2017.

(3) عبدالسلام، محمد، ما بعد الثورات: إدارة الصراعات الداخلية في المنطقة العربية، مجلة السياسة الدولية (بوابة الأهرام الالكترونية)، يوليو 2012.

(4) مركز كارنيجي، ملف انكسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود اجتماعية، 18 يناير 2017، الرابط.

(5) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close