fbpx
تحليلاتقلم وميدان

الضربة الأميركية: هروب ترامب إلى الأمام

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

حدثت الضربة العسكرية الأمريكية، الجمعة 7 أبريل 2017 على مطار وقاعدة الشعيرات في حمص بسوريا بشكل سريع جداً، فبعد يوم واحد من تصريحاته التي عبر فيها عن الأثر الكبير الذي أحدثه الهجوم الكيماوي في خان شيخون على موقفه من سوريا والأسد، وبعد حالة من التصعيد الإعلامي الأمريكي السريع والمركز، أمر ترامب البحرية الأمريكية بتوجيه ضربة صاروخية مركزة على القاعدة العسكرية التي يقال أن الطائرات السورية التي نفذت الهجوم الكيمياوي قد انطلقت منها.

هذا التحرك الأمريكي الخاطف يحتاج وقفه لفهم دوافع ترامب التي تقف خلفه، والأسباب التي قادت إليه، خصوصاً وأنه يأتي في سياق يخالف المواقف المعلنة والتي كان الرئيس ترامب يتبناها، سواء أثناء حملته الانتخابية التي أكد أثناءها بأنه لا يمانع التحالف مع “الأسد” لمحاربة “الارهاب” ، أو حتى قبيل التصعيد الأخير حيث كانت المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة قد أكدت منذ أيام قليلة أن أولوية الولايات المتحدة فى سوريا لم تعد إبعاد الأسد، وأطلق أيضا وزير الخارجية ركس تليرسون تصريحا بنفس المعنى، مما انتقده البعض باعتباره ضوءا أخضر للأسد لمواصلة استكمال جرائمه ضد الشعب السوري الأعزل .

بل إن مواقف ترامب نفسه إبان نفس الحدث في عام 2013 كانت معارضه لأي تدخل عسكري في سوريا من جانب الرئيس أوباما في أعقاب الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية، وذلك في إطار استراتيجيته المعلنه “أمريكا أولا”. ومن الصعب تصور أن ترامب عاد إليه ضميره فجأة في أعقاب رؤية مشاهد ضحايا خان شيخون، خاصة وأن فترة رئاسته المحدودة شهدت مذابح أكثر دموية في حلب وفي الموصل، نتج عنها أضعاف مضاعفة من الضحايا بمسئولية أمريكية مباشرة أو غير مباشرة، ولم يحرك له ساكنة رؤية مشاهدها.

التحرك الأمريكي الخاطف والسريع تجاه سوريا، والغزل على الوتر الانساني من خلال الترويج لحملة تهدف إلى معاقبة المسؤولين عن الهجوم الكيماوي المروع ضد المدنيين، يخدم الرئيس ترامب المأزوم داخلياً بشكل كبير، والذي باتت شعبيته في أدنى مستوياتها، حيث سجلت في آخر استطلاع أجراه Gallup daily tracking poll نسبة 36% فقط، وهي أدنى شعبية لرئيس أمريكي خلال أسابيعه الأولى في البيت الأبيض.

إن الهروب إلى الأمام، وتصدير الأزمات إلى الخارج تعد استراتيجية يلجأ إليها القادة السياسيون في أمريكا عادة إذا ما تعرضت سياساتهم الداخلية وشعبيتهم إلى ضرر كبير، والرئيس ترامب ليس استثناء من هذه القاعدة. فالرجل الذي حاول أن يمنح نفسه الانطباع الصقوري أثناء حملته الانتخابية، وبأنه رجل الأفعال لا الأقوال، يواجه صعوبات كبيرة في تمرير وعوده الانتخابية وسياساته التي تعهد بها لناخبيه في المجال الداخلي، هذا فضلا عن حالة الفوضى التي تسود إدارته بفعل التنافس الكبير بين الأجنحة الرئيسية المكونة لها، والتي جعلت المؤسسة السياسية Political Establishment في واشنطن قادرة على تطويع إدارة ترامب وفرض إرادتها عليها حتى الآن (وهو ما يحتاج لدراسة أخرى مستفيضة لتسليط الضوء عليه).

ومن المثير أن ترامب نفسه كان قد نشر تغريده له في التاسع من أكتوبر 2012، وقال فيها: “الآن بينما تظهر استطلاعات الرأي هبوطا كبيرا في شعبية أوباما، ترقبوا أن يشن ضربه في ليبيا أو إيران. إنه يائس”!، وهو ما يظهر طريقته في التفكير ويوحي بسلوكه المتوقع عندما يكون في مثل هذه الحالة. وعليه فيبدو لي أن دافع الرئيس ترامب شخصيا وراء قرار توجيه الضربة العسكرية على سوريا يكمن في الحسابات الداخلية له.

 

تفوق المؤسسة السياسة والصراع على النفوذ

يرجع جزء كبير من فشل الإدارة الأمريكية في عهد ترامب وتفوق نفوذ المؤسسة السياسية التقليدية على الإدارة حتى الآن إلى الضعف الداخلي للإدارة والناتج، فضلا عن ضعف كفاءة ترامب السياسية وانعدام خبرته في هذا المجال، عن التنافس المحموم بين الاجنحة المتضاربة بداخلها.  بشكل عام هناك أربعة أجنحة رئيسية تتصارع على النفوذ داخل الإدارة (وهو ما أوضحناه في تقرير سابق عن حالة الفراغ في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية) هي:

أولاً: الجناح الشعبوي – القومي والذي يتصدره كل من كبير استراتيجيي البيت الأبيض ستيفن بانون، وكبير مستشاري الرئيس للسياسات ستيفن ميلر، وهو الجناح الذي يتبنى بشكل خاص السياسات الانعزالية والحمائية والعنصرية، تلك التي تتعلق بمعاداة التجارة الحرة، والهجرة، والسود، وتنتهج نهج الاسلاموفوبيا ومعاداة ما يطلقون عليه “الإسلام الراديكالي”.

ثانيا: الجناح العائلي والذي يتصدره جاريد كوشنر زوج إيفانكا ابنة الرئيس ، والذي يبدو أنه – إلى الآن – الأقرب إلى الرئيس والأكثر ولاء له، وذلك يبدو واضحاً من خلال إيكال معظم الملفات الحساسة إليه، وتأتي العلاقة مع الصين على رأسها، فضلا عن القضية الفلسطينية ومعالجة قضية المكسيك، مع “تحديث” اليات الإدارة الحكومية وغير ذلك.

ثالثاً: الجناح اليميني المحافظ المتشدد في الحزب الجمهوري والذي يمثله نائب الرئيس مايك بنس ومن يدعمه من جماعة “حزب الشاي”.

وأخيراً، الجناح الجمهوري التقليدي والمدعوم من المؤسسة العسكرية التقليدية ممثلا في وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي ماكماستر، ويسانده من الخلف عدد من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين مثل جون ماكين وليندساي جراهام، ويسعى هذا الفريق إلى دفع ترامب نحو تبني السياسات التقليدية للحزب الجمهوري والتي تتمثل، على مستوى السياسة الخارجية، في تشديد التعامل مع روسيا وإيران، والتأكيد على أهمية ابقاء التحالف مع أوروبا ودور حلف شمال الأطلنطي، والتردد في استخدام الخطابات العدوانية ضد الإسلام والتركيز فقط على الإرهاب الحقيقي.

يبدو أن الفرق الثلاثة الأخيرة تُحقق تفوقاً على الفريق الأول وذلك من خلال حرمان الجناح الشعبوي من أبرز مؤيديه أو تحجيمهم. فقد خسر  الجناح الشعبوي  – بداية – مستشار الأمن القومي مايكل فلين والذي أجبر على الاستقاله بسبب اتصالاته السرية مع الروس أثناء الحملة الانتخابية لترامب، ثم وبعد ذلك تم مؤخرا استبعاد بانون من مجلس الأمن القومي والذي جاء لصالح ماكماستر الذي أخذ يعزز من نفوذه داخل الإدارة باتجاه ضبط ايقاع سياساتها الأمنية بما يتوافق مع السياسات التقليدية للحزب الجمهوري.

وبهذه المناسبة فإن النفوذ المتنامي للجناح المحافظ التقليدي منه والمتشدد على حد سواء، يعني أن الإدارة الأمريكية سوف تتخذ سياسات متشددة تجاه كل من روسيا، وإيران، وهذا يعني، بطبيعة الحال، مواقف أكثر حدة تجاه الأزمة السورية، فوزير الدفاع الأمريكي لطالما رأى أن الخطر الأول والأخير الذي يهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة يتمثل بإيران وإيران فقط. ويؤمن هذا الفريق بأن تحجيم نفوذ إيران في المنطقة، واحتوائها يبدأ من سوريا، ولذلك فالضربة الأمريكية على  القاعدة العسكرية في حمص  تأتي ضمن السياق العام لتوجهات هذا الفريق.

 

رهانات مرتفعة واخفاقات متكررة

رفع ترامب المراهنة عالياً من خلال وعوده العملاقة التي قطعها على نفسه أثناء حملته الانتخابة. فهذه الوعود، من قبيل إنشاء الجدار العازل على الحدود مع المكسيك والذي يتوجب على الحكومة المكسيكية تمويله بنفسها، ومنع استقبال اللاجئين خصوصاً من الدول الإسلامية، ووقف العمل باتفاقيات التجارة الحرة وخصوصا اتفاق النافتا، وابطال العمل بنظام التأمين الصحي المعروف بـ Obamacare، قد خدمت ترامب في الفوز بالرئاسه من خلال التأثير على الناخب الأمريكي خصوصاً من الطبقة البيضاء العاملة. غير أن هذه الوعود قد اصطدمت بجدار البيروقراطية المعقدة للمؤسسة السياسية العتيدة في واشنطن، مع عدم قدرة ترامب حتى الان على إنفاذ أي منها.

وحتى الآن لم تُحقق الإدارة الأمريكية أي انجاز يُذكر فيما يتعلق بالجدار مع المكسيك وأصبحت تبحث عن تمويل له من داخل الميزانية، في حين تعاني سياسة التضييق على الهجرة من الدول الإسلامية معوقات كبيرة في ظل رفض المحاكم الفيدرالية الالتزام بمقتضياتها، كما لم يوقف ترامب العمل باتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (النافتا) بل اكتفى بتقديم مقترح لاجراء بعض التعديلات الطفيفة التي تحاول تعزيز امتيازات الولايات المتحدة على حساب كل من كندا والمكسيك، في حين أخفق ترامب باقناع حلفائه في التيار اليميني المتشدد داخل الحزب الجمهوري بإيقاف مشروع قانون الرعاية الصحية الذي وضعه الرئيس أوباما، والمعروف بـ Affordable Care Act.

هذا فضلا عن المعركة الحاصلة داخليا على خلفية علاقة بعض المقربين من الرئيس ترامب مع روسيا، ومشكلة الترشيحات التي يحاول ترامب فرضها في بعض المواقع الحساسة والتي كان آخرها ترشيح نيل جورسوتش لعضوية المحكمة العليا، فبعد أن أخفق المرشح في الحصول على الأغلبية المريحة (60 صوت من أصل 100) لضمان مقعده في المحكمة العليا طبقا للقواعد المعمول بها، لجأ الحزب الجمهوري الذي يسيطر على الأغلبية في الكابيتول إلى اتخاذ ما يسمى  “بالخيار النووي” من خلال تغيير قواعد اللعبة، وفرض قواعد جديدة تسمح للمرشح بالفوز بعضوية المحكمة من خلال حصوله على أغلبية النصف زائد واحد. هذا مع العلم أنه لم يكن هناك أحد يشكك في كفاءة جورسوتش لهذا المنصب، ولكنها المناكفات السياسية الحزبية هي التي تفرض مثل هذا السلوك الابتزازي في بعض المواقف.

 

خلاصة

في ظل الاخفاقات الداخلية المتعددة، فالبديل الوحيد السريع المتاح أمام ترامب أن يحاول من خلال الهروب إلى الأمام واللجوء إلى تصدير الأزمة خارجياً، إلى ترميم صورته كرجل المرحلة القوي، وتعزيز شعبيته بالداخل بما يضمن له أوراق أكثر قوة من أجل السعي إلى تحقيق بعض الأهداف السياسية على حساب خصومه السياسيين في الداخل.

بالتأكيد فإن هذا ليس الدافع الوحيد لتوجيه الضربه، ولكنه من وجهة نظري العامل الحاسم بالنسبة لترامب شخصيا، مما لاقى هوى عند من يسعون لدور أمريكي أكثر قوة وتوسعا، أو يريدون توجيه رسالة قوية إلى إيران، أو يحاولون الحد من أثر النفوذ الروسي في سوريا، أو حتى من يرون وجوب سرعة الحسم والتخلص من بشار الأسد، فضلا عمن يريدون الدفاع عن هيبة أمريكا عند تجاوز واحد من أهم خطوطها الحمراء باستخدام السلاح الكيميائي.

يجب أن يكون ذلك واضحا أمام من احتفلوا اليوم بهذه الضربة كتحول تاريخي أمريكي ورجوع إلى القيم والمبادئ الصحيحة وسيؤدي إلى رحيل بشار اليوم قبل غدا، لقد قال وزير الخارجية الأمريكي بوضوح أنه لا ينبغي تفسير هذه الضربة الصاروخية على أنها تغيير في موقف واشنطن، وأن الرئيس الأمريكي اختار ردا محدودا على نظام الأسد من ضمن الخيارات العسكرية، كما نقل عن البنتاجون أنه لا توجد خطط في الوقت الراهن لتوجيه مزيد من الضربات للنظام السوري.

إنه من الصعب الآن تحديد معالم الخطوات الأمريكية القادمة بخصوص العمل العسكري في سوريا، خاصة في ظل وجود رئيس متقلب وغير قابل للتنبؤ مثل ترامب، ولكن وبالنظر إلى الحسابات الداخلية في واشنطن، وطبيعة الضربة ذاتها، يبدو أن الإدارة الأمريكة تسعى إلى ضمان انجاز سريع وفوري يحقق لترامب بعض التوازن الداخلي على حساب الخصوم السياسيين. ولكن يبقى خيار التصعيد الخارجي قائماً طالما بقيت حالة التأزيم الداخلي في الإدارة الأميركية (1).

——————————–

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close