fbpx
دراسات

الثورة والبناء الحضاري عند ابن خلدون

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

الدولة هي أساس الحضارة في فكر ابن خلدون، وقد بنى ابن خلدون نظريته للدولة على أنَّ لها أعماراً مثل أعمار البشر، حددها القرآن الكريم حيث ينتهي كيانها بنهايتها، ثُمَّ تخلفها دولاً أخرى أكثر نظاماً وأشد قوة وأوفر صلاحاً، وحدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاماً، وفي إطار هذا العمر يميز ابن خلدون بين أربعة أجيال للدولة، الأول: وفيه تتميز بقوة العصبية والبسالة والعنف والاشتراك في المجد، ويكون جانبهم مرهوب، والناس لهم غالبون. الثاني: وفيه تنتقل من البداوة إلى الحضارة، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به. الثالث: وفيه يبلغ الترف غايته ، ويصير فيه المواطنون عيالاً على الدولة ، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ، وتسقط العصبية تماماً. أما الجيل الرابع فلا قيمة له لأنَّ فيه تفقد الدولة الاحترام والسلطة.

وفي إطار هذه المراحل كان للثورة موقعها في فكر ابن خلدون، حيث يرى أنه “إذا استقر الملك فى نصاب معين، ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة، وانفردوا به، ودفعوا سائر القبيل عنه، وتداوله بنوهم واحدا بعد واحد، بحسب الترشيح، فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم”.

ويضيف: “يتفطن ذلك المحجور المغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والإستبداد ويرجع الملك إلى نصابه، ويضرب على أيدى المتغلبين عليه، إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط، إلا أن ذلك فى النادر الأقل، لأن الدولة إذا أخذت فى تغلب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك وقل أن تخرج عنه، لأن ذلك إنما يوجد فى الأكثر عن أحوال الترف، ونشأة أبناء الملك منغمسين فى نعيمه، قد نسوا عهد الرجولة، .. فلا ينزعون إلى رياسة، ولا يعرفون استبدادا من تغلب. إنما همهم فى القنوع والأبهة، والتفنن فى اللذات وأنواع الترف. وهذا التفلت يكون للموالى والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم، وانفرادهم به دونهم””.

وفي إطار هذه الأجيال وتلك الرؤية تأتي هذه الدراسة للوقوف على ماهية الثورة وأبعادها في فكر ابن خلدون، ودورها كآلية من آليات التغيير الحضاري، وما تثيره من إشكاليات للبناء الحضاري، وبيان مدي صلاحية رؤية ابن خلدون لتفسير التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات 2011-2016، وقد تم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة مباحث وذلك على النحو التالي: المبحث الأول: الثورة والبناء الحضاري عند ابن خلدون: قراءة مفاهيمية، المبحث الثاني: الثورة وآليات التغيير السياسي عند ابن خلدون، المبحث الثالث: الثورة وإشكالات البناء الحضاري عند ابن خلدون(1).

المبحث الأول: الثورة والبناء الحضاري عند ابن خلدون: قراءة مفاهيمية:

تشكل الثورة أداة من أدوات إحداث التغيير في المجتمع, وتتسم بأنها مفاجأة, وإن كان لها إرهاصات وشواهد تسبق الانفجار الثوري, والثورة تدعو للتغيير الجذري, وإن بدأت كحركة سلمية عفوبة, فإنها سرعان ما تتحول لحركة للتغيير الشامل, إلا أن بعض الثورات تواجه إخفاقات أو ثورات مضادة, وكثيراً من الثورات لا تحقق أهدافها في المدى القريب, ولكنها في المدى البعيد تُحدث تغييراً جذرياً في حركة المجتمع.

وتختلف الرؤي لمفهوم الثورة بسبب تنوع الفهم للمصطلح وتنوع إقترابات المفكرين منه، كل حسب إيديولوجيته وحسب اختصاصه، فنجد من يستخدمه للدلالة على تغييرات فجائية وجذرية تتم في الظروف الاجتماعية والسياسية، أي عندما يتم تغيير حكم قائم وتغيير النظام الاجتماعي والقانوني المصاحب له بصورة فجائية، وأحيانا  بصورة عنيفة(2).

وتعرفها موسوعة علم الاجتماع بأنها: “التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع، تلك التغييرات التي تعمل على تبديل المجتمع ظاهريا وجوهريا من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وإيديولوجية وأهداف الثورة، وقد تكون الثورة عنيفة دموية، كما قد تكون سلمية، وتكون فجائية سريعة أو بطيئة تدريجية(3).

وقد ورد مفهوم الثورة، إما بنصه أو بمشتقاته، أكثر من مرة في مقدمة العلامة ابن خلدون(4)، فيقول ما نصه: “أنكل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية وفي الحديث الصحيح “ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه”، وإذا كان هذا فيالأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة فيالغلب بغير عصبية”. وقد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية وصاحب كتاب خلع النعلين فيالتصوف ثار بالأندلس داعياً إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهديفاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقله بحصن أركش وأمكنهم من ثغره وكان أول داعية لهمبالأندلس وكانت ثورته تسمى “ثورة المرابطين””.

ومن هذا الباب “أحوال الثوار” القائمينبتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرقالدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهيعنه والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهممن الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذاالسبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيثتكون القدرة عليه قال صلى الله عليه وسلم:من رأى منكم منكراًفليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائهاعصبية القبائل والعشائر كما قدمناه” (5).

وفي مواجهة مثل هذه الحالات، يقول ابن خلدون “الذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوامن أهل الجنون وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصفاعين”(6).

لقد جاء تحليل ابن خلدون للثورة، في إطار تحليله للعمليات الاجتماعية الرئيسة التي تقوم عليها الدول والمجتمعات، تلك العمليات التى تشكل الطرق التي يرتبط بها الناس بعضهم مع الآخر للقيام بالوظائف الضرورية للحفاظ على أي نظام اجتماعي والعمل على نموه واتساع حجمه، والطاقة التفاعلية التي تترتب على اتصال الناس بعضهم بالآخر(7).

ووفقاً لهذا التعريف تعددت العمليات الاجتماعية التي تناولها ابن خلدون بالدراسة والتحليل، والتي ترتبط بمفهوم الثورة، ومنها:

١ـ العدوان:

تناول ابن خلدون مبدأ عدوان البشر بعضهم على بعض ويؤكد على ضرورة وجود وازع يدفع هذا العدوان بمعنى أنه عندما تناول عملية الصراع الاجتماعي بين البشر، كان يمهد للحديث عن ضرورة وجود النظام السياسي، بمعنى الملك أو السلطة أو الدولة لحسم هذا الصراع (8).

ويرى ابن خلدون أن الحاجة إلى “الوازع” تفرضها طبيعة الإنسان نفسه، باعتباره كائناً مجبولاً على الخير والشر معاً: على التعاون والعدوان. وإن قيام الحياة الاجتماعية، وبالتالي بقاء الإنسان، يتطلب وجود نوع من السلطة تحفظ للمجتمع تماسكه وتعمل على تقوية التعاون بين أفراده، وكبح عدوان بعضهم على بعض سواء كأفراد أو جماعات.

وفكرة الوازع عند ابن خلدون تنطبق تتدرج من مجرد السلطة المعنوية التي لشيوخ البدو وكبرائهم، إلى السلطة المادية التي تقوم على “الغلبة والسلطان واليد القاهرة” وبكلمة واحدة “الملك”. فالوازع الذي يتحدث عنه ابن خلدون هو وازع اجتماعي، بمعنى أنه سلطة اجتماعية تستمد خصائصها من نوع الحياة الاجتماعية السائدة. وما دامت الحاجة إلى الوازع إنما تفرضها الطبيعة العدوانية التي في البشر، والعدوان يعتمد دوماً على القوة والغلبة، فإن الوازع الذي يراد به دفع هذا العدوان لابد أن يكون هو الآخر قوة غالبة ويداً قاهرة.

ولما كانت الحاجة إلى الوازع تفرضها الطبيعة العدوانية التي في البشر، فإن الوازع سيختلف سواء في البادية أو في المدينة، باختلاف نوع العدوان، فعدوان الأفراد والجماعات داخل المدن، وفق ابن خلدون: “… يدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض، أو يعدو عليه، فإنهم مكبوحون بحَكمة القهر والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان ذلك عن الحاكم نفسه”.

وأما العدوان الذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً، أو العجز عن المقاومة نهاراً، أو يدفعه ذياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة. هذا فيما يتعلق بالوازع في العمران الحضري، وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلَّة. وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج، حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم. ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نصرة كل واحد نسبه وعصبيته أهم”.

إن الصراع “العصبي”، الذي يلعب فيه النسب دوراً لا يجب إهماله ولا التقليل من أهميته. ذلك لأنه على رغم أن النسب هو في الأصل رابطة جمع وتوحيد، فهو أيضاً عامل تفريق. فكما يجمع النسب أفراد العصبة الواحدة أو عصائب القبيلة الواحدة، فهو يعمل أيضاً على إشاعة الفرقة والتنافر بين الجماعات والأفراد الذين لا يربطهم نسب قريب أو بعيد. بل إن الالتحام بالنسب القريب، ينتج عنه تباعد بالنسب البعيد. والتعاون من أجل المصلحة المشتركة داخل العصبة الواحدة، يقابله التنافر بين مصالح العصبات.

هذا الصراع العصبي جعل منه ابن خلدون القوة المحركة للتاريخ، ونظر اليه باعتباره “طبعاً” من طبائع العمران، فهو في نظره نتيجة طبيعتين بشريتين متناقضتين: “صلة الرحم” التي هي “نزعة طبيعية في البشر منذ كانوا”، من جهة، و”الطبع العدواني” الذي هو أهم مظهر من مظاهر آثار الحيوانية فيهم من جهة أخرى.

وهكذا فالصراع العصبي، ليس صراعاً بين “الدماء”، ولا راجعاً إلى مجرد الاعتداد بالأنساب، بل هو صراع من أجل البقاء، وإذا كان هذا الصراع لا يتخذ مظهراً اقتصادياً واضحاً وإنما يبدو في شكل صراع بين العصبات أو الجماعات التي تنتسب إلى نسب معين، فما ذلك إلا لطبيعة الظروف الاجتماعية الاقتصادية السائدة في العمران البدوي(9).

2ـ الصراع على السلطة:

تتعدد أطوار الدولة وتختلف أحوالها وخلق أهلها باختلاف هذه الأطوار، ففي الطور الثاني للدولة، طور الانفراد بالمجد..، ينزع صاحب الدولة إلى الاستبداد، والانفراد بالمجد دون قومه..، حتى لا يترك لأحد منهم لا ناقة ولا جمل وقد يصل الأمر إلى درجة قتل من استراب به.. وهو أمر لا يتم من غير منازع … لأن من ساهموا في تأسيس الملك ينزعون إلى الاحتفاظ بمكانتهم والاستمرار في مشاركته في المجد وثمرات الملك فيحدث بينهم وبينه ما يشبه العداء.. وصاحب الدولة لا يستطيع التغلب على هذه المشاكل إلا بالموالى والمصطنعين.. لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته.. وصدهم عن موارده أن أهل الدولة يضطغنون عليه ويتربصون به الدوائر.. وأن هذا التنازع بين صاحب الدولة وبين ظهرائه الأولين يستمر مدة من الزمن.. وإذا تم تغلب صاحب الدولة في هذا النزاع دخلت الدولة في الطور الثالث.

3ـ التغيير الاجتماعي:

يقول ابن خلدون: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم وغلبهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول(10). ويقول عن السبب في تبدل الأحوال والعوائد هو أن عوائد كل جيل “تابعة لعوائد سلطانه. فأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة فلابد أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول، .. فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة”.

4ـ الحراك الاجتماعي:

أدرك ابن خلدون تأثير الأحداث السياسية على الحياة الاقتصادية وارتبطت أفكاره عن التطور السياسي بآرائه حول الآثار الاقتصادية لهذا التطور وبين كيف أن بعض الأفراد الماهرين يستفيدون من الخراب الذي يصاحب سقوط الدولة وشرح كيف يحدث أن كثيرا من المنازل والمزارع التي تقع في كثير من الأحيان في حوزة سكان المدينة وأبان وهو يشرح ذلك أن هذه الممتلكات قد تجمعت أما خلال أجيال وأما عن طريق المضاربة. فهو يقول أنه عندما تكون الأسرة الحاكمة على وشك السقوط وتظهر أسرة جديدة لتحل محلها فان قيمة العقارات تنقص بسبب الافتقار إلى الأمن(11).

وذهب ابن خلدون إلى القول بأن ظروف الإقامة الحضرية قد تتيح لطبقة من الناس فرصة الثراء، وغالبا ما يحدث ذلك بسبب تملك بعض الأراضي والعقارات، لأن الدولة عندما تأخذ في الانحطاط والانحلال تقل رغبة الناس في امتلاك الأراضي، مما يترتب عليه انخفاض أسعارها ومن ثم يتيسر لطبقة من الناس شراء هذه الأراضي بثمن بخس ثم إذا تغيرت الأحوال وتوافرت للمدينة أسباب العمران ارتفعت أسعار الأراضي وأصبح من جراء ذلك بعض الملاك من كبار الأغنياء دون أن يكونوا قد قاموا بعمل يستوجب هذا الثراء(12).

وفي إطار هذه العمليات يمكن القول، وفقاً للجابري، أن السياسة عند ابن خلدون تنشأ مع أول وحدة اجتماعية، والوحدة الاجتماعية المقصودة هي “العَصَبة” وليس القبيلة، فالعَصَبة عن ابن خلدون، هي: “الذين يَرِثونَ الرجُلَ عن كَلالَة من غير والدٍ ولا وَلدٍ”. فالعصبة هي القرابة دون اشتراط النسب فيها. فالنسب ليس مقصوداً لذاته بل من أجل التناصُر. وهذا التناصر داخل العصبة الواحدة أو بين مجموعة عصبات هو ما يقصده ابن خلدون بـ”العصبية”.

وينطلق ابن خلدون، في دراسته للعصبية وبيان الأساس الذي تقوم عليه والدور الذي تلعبه في الحياة الاجتماعية عموماً وحركة التاريخ خصوصاً، فهو لا يُعنى بالعصبية كرابطة اجتماعية تنظم علاقات الأفراد، بل ينظر إليها، من حيث إنها قوة مواجهة، تنتظم العلاقات مع الدولة. ويقرر “أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك”، وينتهي إلى القول إن “الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه”، فالمسألة هنا مسألة “ضرورة وجودية”، فالعصبية تؤدي إلى الملك ضرورةً لأن الله قد أجرى العادة على ذلك. وهذه العادة قد استقرت وأصبحت “طبعاً” ملازماً للعمران(13).

المبحث الثاني: الثورة وآليات التغيير السياسي عند ابن خلدون

التغيير كما يراه ابن خلدون، سنة من سنن الحياة وأمر حتمي لا مفر منه، يظهر ذلك من سياق وصفه لحتمية التغيير ونهاية الدولة، فيقول “وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني، والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل”(14).

ويمكن تناول طبيعة التغيير وأبعاده وآلياته وموقع الثورة منه، على النحو التالي:

أولاً: طبيعة التغيير وأبعاده عند ابن خلدون:

يرى ابن خلدون أن التغيير شيء حتمي يتسم بالاستمرارية والفاعلية، والمجتمع البشري سائر إلى التغيير شأنه في ذلك شأن الفرد الذي يمر بمراحل حياته منذ ولادته حتى وفاته، ولتأكيد ذلك فقد أفرد فصلاً خاصاً في كتاب المقدمة بعنوان “في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص”(15).

فأحوال المجتمعات لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هي في حالة صيرورة وتغير وانتقال من حال إلى حال، كما يتبين من قوله: “إن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له”(16). مبيناً أن الإنسان لا يستطيع العيش بمفرده، ولهذا كان اجتماع الناس من اجل التعاون، يعني أنك لو تركت الإنسان في ظروف حياتية اعتيادية وطبيعية لألف أخاه الإنسان وكون معه مجتمعاً طبيعياً(17).

إن التغيير، عند ابن خلدون، أمر طبيعي، لابد من حدوثه، ولا سبيل إلى منعه، لأنه يتحرك في نظام لا مرد له، وأن هذا التغيير يبدأ في حركة دائرية، فيقول: “فإذا استولت على الأولين الأيام، وأباد غضراءهم الهرم، فطبختهم الدولة، وأكل الدهر عليهم وشرب، بما أرهف النعيم من حدهم، واستقت غريزة الترف من مائهم، وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي”(18). وهذه الحتمية لا مفر منها، حيث: “تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها برءٌ منه إلى أن تنقرض”(19).

وهذا التغيير له أسبابه ومحدداته ونتائجه وأشكاله، فقد يكون بطيئا في ظهوره، وربما يكون عنيفاً، كما حدث في الربيع العربي، وقد تحدث ابن خلدون عن التغيير، وأفرد له مصطلحات تدل في معناها على جوهره، مثل (انقلاب، ثورة، تقلب، تبدل) فيقول: “فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها”(20).

وإذا كان ابن خلدون يرى في ظاهرة التغيير أنها أمر حتمي وسنة من سنن الحياة، لأن المجتمع الإنساني وما يطرأ عليه من تغير، يتحول من نمط إلى آخر، وأن الدولة مهما طال أمدها، لا بد أن تشملها حتمية التغيير، ومن هنا فقد أشار إلى أهمية التغيير، منطلقاً من رؤيته الجبرية، لأن المجتمعات الإنسانية قد طرأ عليها تحولات عديدة، وأن هذه التحولات تتحرك في نظام حتمي يجعل من دورته قانوناً لا مرد له (21).

وظاهرة التغيير تخضع لقوانين ثابتة حتى وان توالى عليها الكثير من التداخل والتشابك، إلا إنها تخضع لعناصر الثبات والتجديد، يقول ابن خلدون: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال”(22).

وأعطى ابن خلدون الأولوية في أسباب التغيير إلى رأس الهرم في السلطة (الحاكم) أيًّاً كان نوع حكمه، أو سياسته، بقوله: “والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن كل جيل تابعٌ لعوائد سلطانه”(23).

وفهم حتمية التغيير عند ابن خلدون لا يكتمل دون ربط هذه الحتمية بأساسها القبلي، لأنه لا معنى للنشأة ومراحل التغيير التي تمر بها الدولة عند ابن خلدون، دون الرجوع إلى الأساس الذي نشأت فيه ومنه الدولة، وهو وجود العصبية القبلية التي تتحكم بالتغيير وقيام الدولة(24).

ثانياً: أسباب التغيير والثورة عند ابن خلدون:

استعرض ابن خلدون مجموعة من العوامل والأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى التغيير وتدفع باتجاه الثورة, ومنها ظلم الحاكم وجبروته، سواء كانت أساليب الظلم سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، كذلك الترف والثراء، وما يتبعه من ضياع للخلال الحميدة، وكذلك الأحوال الاقتصادية وما يتبعها من آثار اجتماعية (25).

1ـ الانهيار الاقتصادي:

أدرك ابن خلدون أن السياسة الاقتصادية القائمة على نهب أموال الناس ومطاردتهم في أرزاقهم ومزاحمتهم في أموالهم، وعدم توفير الفرص المناسبة للعيش الكريم لهم، سوف تخلق هذه الظروف تربة صالحة للهزات الاجتماعية، ومنها ظاهرة التغيير، ويرى أن للتغييرات الاجتماعية صلة وثيقة بالطريقة التي تؤمن مختلف الأقوام معيشتها، فيقول:”اِعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش”(26).

ويرى أن أغلب حركات التغيير التي ظهرت في المجتمعات الإنسانية، إنما كانت احتجاجاً على سوء السياسة الاقتصادية، فالاعتداء على الناس في أموالهم ومطاردتهم في أرزاقهم تدفعهم إلى محاولة تغيير الأوضاع التي يعيشونها، يقول: “وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملةً بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره”(27).

وبيّن ابن خلدون أن أخذ أموال الناس تثير حفيظتهم، ولاسيما إذا أخذت بالقوة ومن دون وجه حق، لأن كل “من أخذ مُلْكَ أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه ؛ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة… ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله”(28).

لقد حاول ابن خلدون أن يربط بين العوامل الاقتصادية، وبين ظاهرة التغيير التي تطرأ على المجتمع، موضحاً أن هناك علاقة جدلية بين استغلال الحاكم وأفراد أسرته وحاشيته أموال الدولة وما يحدث على أثره من تغيير، ولاسيما إذا اتخذوا أساليب جديدة في العيش، تتضمن صوراً من البذخ والإسراف على الملذات، مما يظهر الفوارق الطبقية بينهم وبين أفراد المجتمع، فيقول عنهم:”ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها”(29). وهذا سيؤدي إلى وجود طبقة مترفة، وطبقة أخرى تعمل وتكد لخدمتها، مما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الطبقتين، فالفقير منهم يزداد فقراً حتى يهلك، والغني يزداد غناً وترفاً(30). مما يخلق وضعاً من الحنق والحقد عند الطبقات المحرومة، وتظهر بينها دعوات إلى العدالة والمساواة، يستغلها النشطاء والمفكرون من أجل تهيئة الأجواء النفسية والاجتماعية للتغيير، وهذا ما أكدته التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية بين 2010 و2013.

2ـ انتشار الظلم وانتهاك الحقوق والحريات:

يؤكد ابن خلدون أن الظلم يؤثر في بنية المجتمع وتماسكه، ويفضي إلى تدمير نسيجه “لأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع”، مما يدفع أبناء هذا المجتمع إلى المطالبة بالتغيير، موضحاً أن العدل أساس قيام الدول ونجاح سياسة الحاكم “الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوفٌ وبه قوام العالم”(31).

ويرى أن حالة التغيير التي تمر بها الدولة مرتبطة إلى حد ما بالحاكم “اِعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه”(32). وأوضح أهمية وجود الحاكم في المجتمع الإنساني: “والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنهما للإنسان خاصة لا للحيوان”(33).

يؤكد هذه الأهمية أن الثورات العربية التي شهدها العالم العربي بين 2010 و2013 كانت تتجه نحو شخوص الحكام العرب الذين استبدوا بالحكم عقوداً من الزمن، وهو ما يعني أهمية الربط بين الثورات والحكام، والتي أكد عليها ابن خلون فظاهرة التغيير عنده تنصب نحو شخص الحاكم سواءٌ كان خليفة أو سلطاناً أو أميراً. والسياسة الناجحة القائمة على العدل والابتعاد عن الظلم كفيلة بأن تجعل أفراد المجتمع يعيشون في اطمئنان وسعادة، وهنا يقول: “فالسياسة والمُلْكُ هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد، لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع”(34).

لقد بين ابن خلدون أن على الحاكم التزامات تجاه الرعية، يجب عليه الوفاء بها، أما عكس ذلك، فإن الخلل قد يتسرب إلى الدولة وتفشل سياسته ويبدأ التمرد عليه ومن هنا يبدأ التغيير، والذي قد يتسم بالعنف والثورية، ومن هذه الواجبات “كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم، وكف العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم وإلى حملهم على مصالحهم”(35). و”استمالة قلوب الرعية بالرفق، وأن لا يكون قاهراً باطشاً، وأن تكون العقوبة للإصلاح لا للانتقام”(36).

إن الظلم من الأسباب الرئيسة التي تدفع إلى التغيير، وصبر الفئات المظلومة سوف يؤدي إلى تضامنها ضد هذه السياسة، وفي الأنظمة السياسية الديمقراطية المستقرة في العالم اليوم، فإن قاعدة الاستقرار فيها هي التزام المنهج السلمي المدني في الإصلاح والتغيير، لأن استخدام القوة والعنف في الحكم، سيؤدي إلى الثورة عليه عند توفر أدنى فرصة للتغيير، وهو ما أكد عليه ابن خلدون، في أكثر من موضع، منها قوله: “إن مثل هذه الرعية ربما خذلوا الحاكم في مواطن الحرب والدفاع عن الوطن”(37).

3ـ الترف والفساد:

يذم ابن خلدون الترف ويحمل عليه، في مواضع عديدة من كتاب المقدمة، ويعده من الأسباب التي تؤدي إلى تدهور أحوال الدولة وضعفها، ومن ثم يدفع الرعية للتفكير بالخروج على الحاكم وتغييره، ويقرر أن حصول الترف وازدياده علامة على إقبال الدولة على الهرم والفناء، ومن ثم يبدأ التغيير فـ “الملك يخلقه الترف ويذهبه”(38)، والاندفاع في الترف وما يرافقه من وهن وضعف وتدهور، سوف يؤدي بالنتيجة إلى التدهور الذي يفضي إلى التغيير(39).

وهكذا كان الترف والثراء الفاحش مضيعاً للخلال الحميدة، لدى أفراد السلطة الحاكمة وحاشيتهم في الأخص، فيندفعون في الحصول على الملذات، وثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرياحين ويتمتعون بأحوال الدنيا ويؤثرون الراحة على المتاعب، ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا (40).

وعن الدولة بعد انغماس أفراد السلطة الحاكمة وحاشيتهم بالترف، وازدياد نفقاتهم، يقول ابن خلدون: “الفقير يهلك والمترف يستغرق عطاءه في ترفه”(41)، و”يصبح الترف مفسدة للأخلاق لأن النفس مع الترف تتلون بألوان من الشر والفسق”(42).

ويقود الترف لتدهور اقتصادي نتيجة الإسراف في الملذات، مما يضطر القائمين عليها إلى استخدام أساليب غير شرعية من اجل الحصول على الأموال، ك مضاعفة الجباية وفرض المكوس لتغطية متطلبات الترف للنخبة الحاكمة(43)، وهذا يُسهم في إثارة الرأي العام، وإيجاد الأسباب للخروج على السلطة وبدء التغيير.

ولأن الترف يحتاج إلى الأموال لسد الحاجات المتزايدة لدى المترفين، يصبح الخلل مزدوجاً في الدولة، وعن هذا يقول ابن خلدون: “تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة، ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة”(44).

وبعد أن يستولى الحاكم وحاشيته على المقدرات الاقتصادية للدولة، ويصبح حكمه جائراً ظالماً بنمطه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، يتصاعد تناقض بينه وبين الرعية، وهذا التناقض سوف يدفع الناس إلى محاولة إيجاد مخرجٍ للأزمة التي وقعوا فيها، وهنا يبدأ التفكير بالتغيير، يقول ابن خلدون: “يعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها، ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه”(45).

4ـ ولع المغلوب بالإقتداء بالغالب:

يقدم ابن خلدون تفسيرا لحالة إقتداء المغلوب بغالبه فقد يكون ذلك راجع إلى ما وقر عند المغلوب أحياناً بعظمة الغالب (اعتقادا من المغلوب بكمال الغالب). ولا يرجع ذلك كما يرى ابن خلدون إلى عصبية أو قوة بأس وإنما إلى العوائد والمذاهب التي ينتحلها الغالب. ومن ثم فإنه ليس بمستغرب أن نجد المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه، ومركبه، وسلاحه بل وفى سائر أحواله. ويشبه ابن خلدون هذه الحالة بما يحدث بين الأبناء وآبائهم حيث نجدهم متشبهين بهم دائما لاعتقادهم الكمال فيهم(46).

5ـ طبيعة الملك وآثاره:

يقرر ابن خلدون أن العصبية غالباً تتألف من عصبات كثيرة غير أن أحداها تكون لها عادة الغلبة والقوة فتجمعها وتؤلف بينها وتصير عصبية واحدة.. وهذه “العصبية الكبرى” إنما تكون لقوم أهل بيت ورياسة فيهم ولابد أن يكون واحد منهم رئيساً لهم، غالباً عليهم فيتعين رئيساً للعصبيات كلها… فينفرد بذلك المجد كلية، وليس بلازم أن يحدث ذلك لكل ملوك الدولة، وإنما قد تتم لواحد أو لأكثر دون الآخرين.

ويرى ابن خلدون أن من طبيعة الملك الترف ويفسر ذلك بأن تغلب الأمة على أخرى يتسبب في كثرة العوائد والمنافع نتيجة امتلاكها، واستيلائها ما كانت تمتلكه الأمة (أو الأمم) الأخرى فيتجاوز أهلها بذلك ضرورات العيش إلى نوافله ويعمدون إلى إتباع الأساليب المترفة في الطعام، والملبس، والفرش، والأواني ويتفاخرون في ذلك، ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم. ويترتب على هذا الترف والراحة والسكون، والدعة “فيستمتعون بأحوال الدنيا، ويؤثرون الراحة على المتاعب ويتأنقون في أحوالهم ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم”(47)، وكل ذلك يؤدى بالضرورة إلى شيوع مناحي الضعف، والهرم بالمجتمع.

6ـ الحضارة غاية العمران ونهايته ومؤذنة بفساده:

يعتقد ابن خلدون أن العمران كله بما يشمله من بداوة، وحضارة، وملك، وسوقه له عمر محدد ويشابه في ذلك بين المجتمع والإنسان وأن سن الأربعين لديه تشير إلى بداية الانحطاط… ويحدث للعمران أيضا نفس العرض بعد فترة من الزمن وخصوصاً بعد اكتمال الترف والتخلق بعوائد الحضارة، والكلف بالصنائع وما يتبعه من تأنق في كافة أحوال الحياة بالمجتمع.

ويرى أن تعاظم نفقات الحضارة بشكل يعجز الكسب عن الوفاء بها، الأمر الذي يتسبب في غلاء أسعار الحاجيات بالأسواق ثم تزيدها المكوس غلاء حيث يضيف التجار على أسعار بضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم. وتنعكس هذه الأحوال على نفوس الناس وأخلاقهم، فيصبح الفسق والشر والتحايل على تحصيل المعاش بشكل مشروع أو غير مشروع من السمات الشائعة في هذه المرحلة من الحضارة.

7ـ خراب الأمصار وقلة الصنائع:

يرى ابن خلدون أن الصنائع تخلق أصلاً لحاجة إليها، ووجود طلب لها.. غير أنه في حالة تدهور أحوال الأمصار وتناقص سكانها فإن الاقتصار على ما هو ضروري يصير هو الشائع ومن ثم تقل الصنائع التي كانت من توابع الترف لأن صاحبها لا يستطيع الاعتماد عليها في معاشه ولا يتمكن من الكسب بواسطتها إذ لا يوجد أحد يحتاج بضاعته. فإما أن يفر إلى غيرها، أو يترك المصر إلى مكان آخر(48).

وفي إطار هذه الاعتبارات يمكن القول أن هناك مجموعة من القوانين التي تحكم تحولات الأفراد والمجتمعات، الانتقال من مرحلة إلى أخرى تحكمه عدَّة عوامل، وتختلف المراحل الزمنيَّة التي تستغرقها المخلوقات والكائنات في الانتقال من مرحلة إلى أخرى بحسب طبيعتها، وبحسب ما تأخذ به من أسباب للبقاء. وهذه السنن في مصلحة الإنسان وبقائه على الأرض، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 251).

وبتطبيق هذه الثوابت والعموميَّات على الحضارات الإنسانيَّة، والدول ونظم الحكم، يبرز تأصيل عبد الرحمن بن خلدون في مقدّمته، إن غروب الحضارات وزوال الدول، يكون بسبب عدد من العوامل، من بينها: تراجع دور الحكماء والعلماء، أو ما وصفه بـ”أمارة القلم”، وتخلف المجتمع وتشتت قواه، وشُحَّة المنافع الدنيويَّة “العمليَّة”، ولاسيّما الضروري منها، وكثرة المظالم، وتخطى الحدود فيها من الأقوياء على الضعفاء والفقراء، وتراخي دور السّلطة والدولة والحاكم، الذي يُؤوَّل إلى ضعف “المدنية”، وتراجع الإنجاز العلمي، وتدهور أحوال المبدعين وهجرتهم، وتقاعس همَّة المواطنين وفتور نشاطهم العام والخاص لغياب الأمن، وغياب روح التناصر والتعاون في مواجهة الخطوب بسبب غياب “الدولة”(49).

المبحث الثالث: الثورة وإشكالات البناء الحضاري عند ابن خلدون

الإنسان عند ابن خلدون كائن اجتماعي لا تصح حياته بدون مجتمع “فالاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يُتخيل وجودهم وما أراد الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم”(50)، كما أن الإنسان نفسه مهيأٌ خَلقيا للعيش مع الآخر، وهو يحتاج يده “المهيأة للصنائع”(51) وذلك لجعل حياته ممكنة.

ويؤكد ابن خلدون على أن الإنسان هو صاحب مصيره، وهو المسؤول عنه، على عكس الحيوانات الأخرى، وذلك “لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له  الخلافة على سائرها”(52).

والخلافة في كلام ابن خلدون تأخذ شكل الهيمنة، التي وإن كانت تتربع على أعلى موقعٍ في سُلَّم المخلوقات، إلا أنها هيمنةٌ مسؤولةٌ دورها الأساسي هو المحافظة على الحياة أولاً، ثم الوصول إلى أكمل صورة ممكنة لها في هذه الدنيا. ذلك أن من الممكن أن يصل الإنسان إلى نوع من السيادة المطلقة في هذا العالم، ولكن هذه السيادة تكون سيادةَ شرٍ وعدوان واستغلال كما هي الأمثلةُ صارخةٌ على ذلك في هذا العصر.

كما يؤكد على ضرورة وجود “الوجهة” كأمرٍ لابد منه لكي يوجد العمران ويتحرك ويتكامل. وكلما ارتقى الإنسان في تحديد وتمييز تلك الوجهة، بحيث تكون وجهةً إلى الحق، ازداد تكامل العمران البشري على هذه الأرض. وحيث أنه يقسم العمران إلى درجات، تبدأ بالعمران البدوي الحاجي الأولي، وتنتهي بالعمران الحضاري الكمالي التكاملي، فإن شرط التحول والانتقال من العمران البدوي إلى ما بعده إنما هو وجود تلك “الوجهة” التي تعني الغاية والهدف والطريق الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة (53).

إلا أن ابن خلدون يلفت الانتباه إلى تأثير نمط الحياة المعين على المآلات المستقبلية، حيث يقول: “اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو اختلافُ نحلتهم من المعاش” (54).

وفي إطار هذه الأفكار تبرز عدة إشكاليات يثيرها التغيير وآلياته، ومنها الثورة، ودوره في البناء الحضاري، وهو ما يمكن تناوله في المحاور التالية:

أولاً: مكونات البناء الحضاري عند ابن خلدون:

“العصبية” عند ابن خلدون، هي ما يجعل الاجتماع البشري ممكنا، بحيث يقود ذلك الاجتماع فيما بعد إلى إمكانية قيام العمران، وهنا يكون التسلسل عند ابن خلدون كالتالي: “عصبية  ..  اجتماع بشري .. عمران”

1ـ العصبية:

يلاحظ ابن خلدون أن العصبية البالغة القوة عند القبائل المتوغلة في الصحراء كانت قاتلةً لكل انفتاح اجتماعي ممكن، بحيث أصبح أصحابها أبعد الناس عن العمران والحضارة. فالقضية هنا ليست قضية غياب العصبية، وإنما في عدم قدرتها على الإبصار. بمعنى أن  الاجتماع البشري يصبح خاضعاً  لها مُستلَباً أمامها، فاقداً للقدرة على وضعها في موضعها. وفي مثل هذه الحالة بالضبط تبرز بكل وضوح رؤية ابن خلدون لدور الدين من ناحية قدرته على توظيف “العصبية” وإعطائها قوة “الإبصار” بحيث تعود الحركة لتتوجه نحو تكامل العمران. والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه أن الدين بهذه الرؤية إنما هو عاملٌ مؤثرٌ في العصبية وموجهٌ لها، وليس أصلا لها كما يُفهم في بعض الأحوال.

وعن تحليل ابن خلدون لدور الدين، فإنه يشرحه بقوله عن العرب: “… وأنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلَّ ما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم، فسهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس”(55). والمسألة هنا لا تتعلق برفض الهوى ابتداءً، وإنما بالقدرة على التحكم فيه وتوجيهه إلى الحق، أي في وجود “الوجهة” المطلوبة.

ويرى ابن خلدون أن الدعوة الدينية تزيدُ الدولة قوة فوق قوة العصبية التي كانت لها، والسبب في ذلك “أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولة التي هم طالبوها [أي الدولة التي يواجهونها، وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل”(56).

والعصبية التي تلعب ذلك الدور الهائل، والتي  تشكل عصب المجموع، تتمثل في ميدان الواقع من خلال التنافس في الخلال الحميدة “وخلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وُجدت له العصبية. فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله، من الكرم والعفو عن الزلات والاحتمال من غير القادر والقري للضيوف وحملِ الكلِّ وكسب المعدم والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء والعاملين لها.. والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه.. والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد”(57).

2ـ الدولة:

تأتي مرحلة الدولة عند ابن خلدون كغايةٍ للعصبية، وكضرورةٍ لدخول العمران البشري مرحلة الكمال “فالدولة دون العمران لا تُتصور والعمران دون الدولة والمُلك متعذر”(58). وطريق العصبية إلى الدولة سالكٌ عند ابن خلدون ما لم تعترض العصبية في طريقها إلى المُلكِ عوائق مثل : حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم، أو المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم.

وكما ينتقل العمران من العمران البدوي إلى العمران الحضري فإن الدولة هي الأخرى تنتقل من البداوة إلى الحضارة “فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل المُلكُ تبعه الرَّفهُ واتساع الأحوال. والحضارة إنما هي تفننٌ في الترف وأحكام الصنائع المستعملة..” (59).

وفي هذه المرحلة يلوح خطر طغيان عالم الأشياء. لأن قوة الدولة تزداد وحصول الاستيلاء يتمُّ وعِظَمَ واستفحال المُلكِ يتفاقم “فيدعو إلى الترف ويكثر الإنفاق بسببه، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة، ثم يُعظَّم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية”(60). ويبدأ الاجتماع البشري في التوجه إلى لحظات أزمةٍ خانقة، لا يحلها على الإطلاق زيادة الإنتاج، بل إن تلك الزيادة تساهم في تعفين الأجواء وتعميق الأزمة.

إن هذه اللحظة هي لحظة الاكتمال للعمران الناتج عن لحظة سيادة عالم الأشياء، وذلك عبر مثلث متناقض يتمثل في طغيان توفر الأشياء من جهة، وشدة البحث عنها من جهة أخرى، والضعف المتناهي للتحكم فيها والقدرة على وضعها موضعها من جهة ثالثة. وبدلاً من أن يمتلك الإنسان الأشياء في هذه اللحظة، يصبح هو مُلكاً لها، لأن امتلاكها صار محور حياته وحركته، وصار هو “الوجهة” و”الغاية”.

وفي هذه اللحظة تستحيل “الوجهة” التي أنتجت الحضارة عبر تحرك العمران نحو تحقق عالم الأشياء، ثم تفقد “العصبية” القدرة على توحيد الأهواء باتجاه تلك الوجهة وتبدأ هي أيضا في التلاشي، ليكون تلاشي العصبية أخيرا مُفضياً إلى تلاشي الدولة كليا “إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفيء”(61).

ثانياً: محددات الاستقرار والتغير في فكر ابن خلدون:

تناول ابن خلدون عدداً من العوامل والاعتبارات التي شكلت، وفقاً له، محددات للاستقرار والتغير في المجتمعات المختلفة، ومن بين هذه المحددات:

1ـ ضرورة الاجتماع الإنساني:

تركز اهتمام ابن خلدون على بيان الأسباب أو الدوافع التي أدت إلى اجتماع البشر فيما بينهم وهى التعاون بالضرورة على قهر الطبيعة للحصول على الضروري من الطعام لتأمين الحياة، وللدفاع ضد الأخطار. أى أنه بالتعاون يحصل الإنسان على قوته للغذاء كما يتمكن من توفير السلاح للدفاع عن نفسه والآخرين ومن ثم كان هذا “الاجتماع” ضروري للنوع الإنساني وإلا ما حدث “اعتمار” العالم ببني البشر وهذا هو معنى “العمران” الذي جعله ابن خلدون موضوعا لهذا العلم(62).

٢ـ أهمية الخلافة:

يقول ابن خلدون: إنّ الاجتماع الإنساني ضروري ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدنيّ بالطبع، أي لا بدّ له من الاجتماع الذي هو المدنيّة في اصطلاحهم، وهو معنى العمران. وبيانه أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصحّ حياتها وبقاؤها إلاّ بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله. [ . . . ] فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف(63).

وهذا الاجتماع إذا حصل للبشر وتمّ عمران العالم بهم، فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم. وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات عنهم كافية في دفع العدوان عنهم، لأنها موجودة لجميعهم. فلا بدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى المُلك(64).

إن الخلافة هي شكل المُلك الأمثل، إلاّ أنّه بالنظر إلى طبيعة المجتمع الراهن فإنّ المُلك الطبيعي هو الأفضل، وفي أسوأ الحالات يطغى الاستبداد. وأساس المُلك لم يعد العقل والأخلاق، بل القوّة، فالمُلك يقتضي القهر والتغلّب اللذان يعبّران عن سطوةِ عدوانية الطبيعة البشرية(65). لكنّ التغلّب قد يحيل المُلك العادل إلى استبداد، في حين أنّ السلطان لا يمكن أن يقاوم ويبقى دون عدل. وبالفعل، فإنّ العدل أساس العمران (66).

3ـ البادية أصل العمران:

يرى ابن خلدون أن البدو هم أصل المدن والحضر فهو سابق عليهما. ويعتمد في حكمه هذا على فكرة “الضروري، والكمالي” فالضروري (أي البادية) هو الأصل وتتحدد مطالب الإنسان بالضروري أولاً ثم يليه الكمالي والترفي ولذا فإن غاية البدوي تتمثل في سكن المدن والأمصار، وينتهي بسعيه إلى الحصول على “الرياش”. أما الحضري فإنه: “لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته” (67).

4ـ استقرار الدولة والاستغناء عن العصبية:

يربط ابن خلدون بين قوة الدولة ورسوخها واستقرارها في نفوس الناس، وبين خفوت حدة العصبية التي ألفوها من قبل. فهناك تحول كبير يحدث لدى أفراد المجتمع عندما تقوى شكيمة الدولة وتتوارث حاكما بعد آخر.. ورويدا رويدا تنسى النفوس شأن الأولية (العصبية) وترسخ في العقائد دين الانقياد للحكام والتسليم لأمرهم(68).

5ـ الدولة أقدم من المدن والأمصار:

يؤكد ابن خلدون أن البناء، وتخطيط أماكن السكن من المظاهر اللصيقة بالحضارة، والمرتبطة بالترف والدعة، وهنا يقول: “المدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة، وبناء كبير، وهى موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي، وكثرة التعاون وليست من الأمور الضرورية للناس التي تعم بها البلوى حتى يكون نزوعهم إليها اضطرارا.. بل لابد من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك، أو مرغبين في الثواب والأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك والدولة…” (69).

وفى هذا الشأن يقرر ابن خلدون أنه:”لابد من تمصير الأمصار، واختطاط المدن من الدولة والملك” وهو بذلك يقرر دور الدولة في غرس المدينة الكبرى كعاصمة مستحدثة مع قيام الدولة الجديدة(70). ثم ينتقل إلى الحديث عما يطرأ على المدينة من نمو وزيادة تتمثل في المرافق العامة مع ربط ذلك بقوة الدولة وطول مدة حكمها (71).

ومن الإشارات المهمة التي يتخذها ابن خلدون دليلاً ومعياراً على اتساع المدينة ونموها آنذاك نذكر “الحمامات” كمرفق هام من مرافق المدن الإسلامية فيذكر عن الخطيب البغدادي قوله بأن الحمامات قد بلغت في عهد المأمون نحو خمسة وستين ألف حمام، وتحولت بغداد إلى مجمع مديني يشتمل على مدن متلاصقة ومتقاربة تجاوز عددها الأربعين ولم تكن مدينة واحدة يجمعها صور واحد وذلك لعمرانها المفرط.. وكذا الحال في مدن: القيروان، وقرطبة، والمهدية في الملة الإسلامية، وكذلك حال مصر (القاهرة) (72).

6ـ وجوه المعاش، وأصنافه، ومذاهبه:

يعرف “المعاش” بأنه ابتغاء الرزق، والسعي في تحصيله. ويرى ابن خلدون أن تحصيل الرزق والكسب يتم بطرق وأساليب متعددة ومتنوعة فقد يتم بأخذه من يد الغير وانتزاعه استنادا إلى قانون متعارف عليه (الجباية مثلاً) أو يكون باصطياد الحيوان سواء الوحشي أو الداج والإفادة من منافع الأخير (مثل اللبن، والحرير، والعسل). أو أن يتم ذلك من النبات في الزرع والشجر بالقيام عليه والحصول على ثماره.. أو أن يكون الكسب من الأعمال التي يقوم الإنسان بها (الصنائع) من كتابة، ونجارة، وخياطة، وفروسية.. أو أن يتم ذلك أخيراً عن طريق “التقلب في البلاد” وارتقاب حالة الأسواق وهو نشاط التجارة(73).

7ـ كثرة العلوم مرتبطة بنمو العمران وعظم الحضارة:

إذا كان “تعليم العلم” هو من جملة الصنائع، فإنه نشاط يكثر ويزيد في الأمصار. فمتى حقق الناس فائضا من معاشهم انصرف هذا الفائض (الذي يطلق عليه ابن خلدون الكمالي) إلى ما وراء المعاش وضمنها العلوم والصنائع. فمن نشأ في المناطق البعيدة عن العمران (القرى والأمصار غير المتمدنة كما يسميها ابن خلدون) لا يجد فيها التعليم نتيجة فقدان الصنائع التي هي صنو للتعليم فكانت رحلتهم دائما إلى الأمصار طلباً للعلم وتعلمه. ويؤكد ابن خلدون مقولته هذه ما رآه في كل من: بغداد، وقرطبة، والقيروان، والبصرة، والكوفة. ويشرح ابن خلدون كيف زخرت هذه البلاد ببحار العلم وتفنن أهلها في معاهد التعليم ودرسوا فيها أصناف العلوم وحدث في تلك الفترة نمو حقيقي في كافة صنوف المعرفة حتى “أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين”.. غير أن تناقص العمران وتشتت السكان وتناقصهم أدى إلى فقدان هذه المراكز العمرانية مظاهر العلم والتعليم وانتقل الناس إلى غيرها من أمصار الإسلام (74).

خلاصة: التغيير الثوري بين ابن خلدون والربيع العربي

يقول ابن خلدون: “إن الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها”. ويمضي ابن خلدون واصفا بدقة كيف تتحول الدول إلى بوليسية أو أمنية وكيف تكون ردة فعل مواطني هذه الدول على ظلم دولهم، ليصل إلى نتيجة “ربما أجمعوا على قتله”. كما يوضح ابن خلدون أنه: “إذا كان النظام رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم، استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كل جانب”. ووضع ابن خلدون معادلة ثورة الشعوب على أنظمتها، التي وصفها بالطغيان السياسي والاقتصادي (75).

إن الأحداث التاريخية والظواهر السياسية لا يمكن دراستها والبحث فيها دون الرجوع إلى جذرها التاريخي، لأن فهم المتغيرات السياسية يتطلب احتواء المتغيرات الزمانية والمكانية، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون بقوله: “فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لأول وهلة من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق كثيراً فيقع في مهواة من الغلط”(76).

وفي هذا الإطار يمكن الوقوف على عدة استنتاجات رئيسة:

أولاً: إن الدولة العربية الحالية لا تختلف عن الدولة الإسلامية كما عرفها التاريخ منذ تأسس في المجتمع العربي الإسلامي الدولة بمعنى الكلمة، بوصفها مؤسسة قهرية تضع نفسها فوق المجتمع وتحكم باسم الدين، أو باسم المصلحة العامة، وأن دولة الماضي العربي ما زالت تكرر نفسها في الحاضر العربي(77).

ومن هنا يمكن القول إن مؤلفات ابن خلدون ونظرياته، أكثر معاصرة لواقعنا العربي، وربما نجد فيه البعد الحضاري، في وجودنا المعاصر وظواهرنا المعاصرة، ومنها ظاهرة التغيير في التاريخ العربي، من أجل اعتماد آرائه مدخلاً تاريخياً لمعرفة الجذور التاريخية لهذه الظاهرة.

وقد تعرض ابن خلدون لفكرة التطور الدوري والتغيير المستمر لأحوال المجتمع موضحاً أن هذا التغير يخضع إلى قوانين عامة مجردة، وقد حدد ذلك الإجراء المنطقي بوصفه انتقال الجماعات السياسية من كلية إلى أخرى بأنه تطور طبيعي “فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة، والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه”(78).

ثانياً: تغافل الكثيرون في تقييم الأوضاع السياسية والاجتماعية قبل الربيع العربي عن أمرين: الأوَّل هو وصول الأنظمة العربيَّة الحاكمة إلى مراحل متأخرة من الظلم وتراخي دور الدَّولة والحاكم، وهما العاملان الأهم للانحدار والزوال. والثاني: تغافل تأثير الحراك الشعبي والمجتمعي والذي كان يموج بالحركة النشطة وكان كامنا تحت سطح الجمود السياسي القائم على مستوى قمَّة الأنظمة الحاكمة.

فكان الناظر إلى الأوضاع في بلدان عالمنا العربي من سطحها، على مستوى الأنظمة السياسيَّة، والتي صار لها عقود حاكمة، كان يُخيَّل إليه أنَّه لا أمل في التغيير، فهناك مسئولون وقادة حزبيون وسياسيون على مقاعدهم وفي أماكنهم منذ عقود طويلة، وحتى عندما يحدث تغيير؛ كان يتم في هذه الدَّائرة نفسها. إلاَّ أنَّ المتمعِّن في الوضع على مستوى القاعدة، كان يجد الكثير من الحراك المشتعل، والذي كان يحمل علامات لا لبس فيها تُشير إلى وصول الأمور إلى مرحلة اللاعودة(79).

ثالثاً: وضع ابن خلدون الأساس الذي يفسر هذا الصراع، بل ويحدد نتيجته أيضا، فهو يتعرض في الباب الثاني من المقدمة إلى أن تأسيس الدولة لا يكون إلا بالعصبية وهي قوة طبيعية. فهي إذن الوسيلة الضرورية، أما الأصل فهو شأن آخر: “إن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما عن نبوة أو دعوة حق”. هنا يميز ابن خلدون بين الوسيلة والأصل في قيام الدولة، الوسيلة هي القوة العسكرية والأصل هو الدين. ولا يكتفي ابن خلدون بهذا، بل يبحث في العلاقة الجدلية بين الأمرين فيقول من جهة: “إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم”، ومن جهة ثانية: “إن الدعوة الدينية تزيد العصبية قوة على قوة العصبية”.

رابعاً: تظهر حتمية التغيير في فكر ابن خلدون من خلال مقارباته في دراسة ظواهر المجتمع، وذلك من خلال الدورة التاريخية التي بحثها في كتاب المقدمة، والتي أكد من خلالها أن هناك قانوناً يحكم سير المجتمعات الإنسانية، هو قانون الحركة والتطور والتغيير المستمر، وقد جاءت آراء ابن خلدون في حتمية التغيير، نتيجة لتجاربه السياسية، ورؤيته للأحداث، من خلال معايشته للمجتمع بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة من خلال إطلاعه على كتب التاريخ، وكان في رؤيته يصور ما كان يحدث من انقلابات ومؤامرات وثورات متلاحقة، وسقوط دول وقيام أخرى.

خامساً: يبقى ابن خلدون أبرز مؤرخ عربي دعا إلى ضرورة التنبّه للعوامل الموضوعية في فهم التاريخ، وتمثل مقدمته التي احتلت مكانتها في التراث الفكري للإنسانية وليس للعرب وحدهم، وثيقة لا يستغنى عنها، خاصة في الراهن العربي لتأسيس وعي تاريخي علمي وموضوعي بحقيقة الذات، والآخر وتأصيله. فابن خلدون يحذر من دورة انهيار تاريخي شبه حتمي للأنظمة السياسية العربية التي تبدأ بالحزم والتقشف، ولكن تنتهي أجيالها التالية تدريجياً إلى الترف المهلك بما يفقدها فضيلة المدافعة والممانعة نحو بقائها ووجودها(80).

—————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

(2) عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الجزء الأول 1979، ص870.

(3) شعبان الطاهر الأسود، علم الاجتماع السياسي: قضايا العنف السياسي والثورة، (القاهرة : الدار المصرية اللبنانية .2003)، ص 46-47.

(4) هو ولي الدين عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، كنيته أبو زيد، ولد في تونس عام 1332م، لأسرة من أصول يمنية وكان لأسرته الكثير من النفوذ في إشبيليه ببلاد الأندلس، وقد هاجرت الأسرة مع بداية سقوط الأندلس في يد الأسبان إلى تونس وعاش ابن خلدون معظم حياته متنقلاً بين بلاد شمال أفريقيا، هذا بالإضافة لزياراته لأرض الحجاز، توفى في مصر عام 1406هـ.

(5) أنظر: مقدمة ابن خلدون، الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات، الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم

(6) أنظر: مقدمة ابن خلدون، الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات، الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم

(7) د. محمد عاطف غيث، علم الاجتماع، (الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، ١٩٨٦)، ص ص ٢٠٤- 207.

(8) يقول ابن خلدون: “فمن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعضهم على بعض فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع”. ويقول أيضاً: “والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعله لا يظلم”. ويقول كذلك: “إن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطباع الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم إلى بعض ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة وهى تؤدى إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع ولذلك استحال بقاؤهم فوضى دون وازع يزع بعضهم عن بعض”. أنظر المقدمة، صفحات متفرقة.

(9) د . محمد عابد الجابري، الدولة والسياسة في فكر ابن خلدون.

(10) د. عبد الله شريط، نظرية التطور عند ابن خلدون، ندوة “ابن خلدون والفكر العربي المعاصر”، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، ١٩٨٠، ص ٩٥ – ص ٩٦. نسخة الكترونية، الرابط، تاريخ الزيارة 23 أغسطس 2016

(11) جوستون بوتول، ابن خلدون، فلسفته الاجتماعية، ترجمة غنيم عبدون، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة، والطباعة والنشر، بدون تاريخ)، ص ٥١

(12) د. عبد الرازق جلبي، العمليات والنظم الاجتماعية في فكر ابن خلدون”، دراسة مقدمة ضمن أعمال مؤتمر “ابن خلدون: قراءة معرفية ومنهجية”، (القاهرة، جامعة عين شمس، كلية الآداب، قسم علم الاجتماع مركز الدراسات المعرفية، 5-٦ أغسطس ٢٠٠٠)، ص 8-14. نسخة الكترونية، سبق الإشارة إليها

(13) د . محمد عابد الجابري، الدولة والسياسة في فكر ابن خلدون،.

(14) المقدمة، ص320.

(15) المقدمة، الباب الثالث، الفصل الرابع عشر، ص189 .

(16) المقدمة، ص55 .

(17) ملحم قربان، خلدونيات، قوانين خلدونية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1 ( بيروت، 1984م )، ص179 .

(18) المقدمة، ص165 .

(19) المقدمة، ص169 .

(20) المقدمة، ص45 .

(21) المقدمة، ص191 .

(22) المقدمة، ص44 .

(23) المقدمة، ص45 .

(24) علي أومليل، مصادر التنظير عند ابن خلدون، بحث منشور في مجلة الفكر العربي، العدد (16) تموز، 1980, ص86 .

(25) د. خميس غربي حسين العجيلي، حتمية التغيير في فكر ابن خلدون: دراسة سوسيولوجية لظاهرة التغيير في التاريخ العربي، الأردن، جامعة فيلادلفيا، المؤتمر السابع عشر، كلية الآداب.

(26) المقدمة، ص139 .

(27) المقدمة، ص313 .

(28) المقدمة، ص314 .

(29) المقدمة، ص188 .

(30) المقدمة، ص187.

(31) المقدمة، ص57 .

(32) المقدمة، ص328 .

(33) المقدمة، ص162 .

(34) المقدمة، ص162 .

(35) المقدمة، ص257 .

(36) المقدمة، ص209 .

(37) المقدمة، ص209 .

(38) المقدمة، ص166 .

(39) المقدمة، ص408 .

(40) المقدمة، ص186 .

(41) المقدمة، ص187 .

(42) المقدمة، ص187 .

(43) المقدمة، ص310 .

(44) المقدمة، ص310 .

(45) المقدمة، ص 310 .

(46) يقول ابن خلدون: “انظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زى الحامية، وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم. حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها فيسرى إليهم من هذا التشبه والإقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم، وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران، والمصانع، والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء”. ويرتب ابن خلدون نتيجة أخرى ترتبط بالعلاقة بين الغالب والمغلوب مؤداها أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء. أنظر: مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ١١٧.

(47) مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ١٣٢.

(48) د. محمود فهمي الكردي، مرجع سابق، ص 11-14.

(49) أحمد التلاوي، ابن خلدون وثوراتنا العربية، موقع بصائر، 3/2/2012، الرابط، تاريخ الزيارة 23-8-2016.

(50) مقدمة ابن خلدون، ص 47

(51) مقدمة ابن خلدون، ص 47

(52) مقدمة ابن خلدون، ص 45

(53) ناجي بن الحاج الطاهر، العمران والحضارة عند ابن خلدون، مجلة الرشاد، عدد 4، الرابط

(54) مقدمة ابن خلدون، ص 134

(55) مقدمة ابن خلدون، ص 166

(56) مقدمة ابن خلدون، ص 174

(57) مقدمة ابن خلدون، ص 157

(58) مقدمة ابن خلدون، ص 416

(59) مقدمة ابن خلدون، ص 190

(60) مقدمة ابن خلدون، ص 328.

(61) مقدمة ابن خلدون، ص 329.

(62) د. محمود فهمي الكردي، “الاستقرار والتغير في فكر ابن خلدون”، دراسة مقدمة ضمن أعمال مؤتمر “عبد الرحمن بن خلدون: قراءة معرفية ومنهجية”، جامعة عين شمس، كلية الآداب، قسم علم الاجتماع مركز الدراسات المعرفية، 5-٦ أغسطس ٢٠٠٠، ص 2-5. نسخة الكترونية، سبق الإشارة إليها.

(63) المقدّمة”، ص 33

(64) يقول ابن خلدون: “المُلك منصب طبيعي للإنسان لأنا قد بيّنا أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلاّ باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم. وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كلّ واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة، ومقتضى القوة البشرية في ذلك. فيقع التنازل المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدّي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع. وهو ممّا خصّه الباري سبحانه بالمحافظة. فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض. واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكّم. ولابدّ في ذلك من العصبية لما قدّمناه من أنّ المطالبات كلّها والمدافعات لا تتمّ إلاّ بالعصبية. وهذا المُلك كما تراه منصب شريف تتوجّه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات ولا يتمّ شيء من ذلك إلاّ بالعصبيات كما مرّ”. أنظر: المقدمة، الباب الثالث، “في الدّول العامّة والمُلك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك”، ص 148.

(65) المقدمة، ، الباب الثالث، “في الدّول العامّة والمُلك والخلافة والمراتب السلطانية ..”، ص 150.

(66) يقول ابن خلدون: “لا قِوام للشريعة إلاّ بالمُلك، ولا عزّ للمُلك إلاّ بالرجال، ولا قوام للرجال إلاّ بالمال، ولا سبيل للمال إلاّ بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلاّّ بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الربّ وجعل له قيّما وهو المَلك”. وتحت عنوان “في أنّ الظلم مؤذن بخراب العمران”، يقول: “ولا تحسبنّ الظلم إنما هو أخذ المال أو المُلك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعمّ من ذلك. وكلّ من أخذ مُلك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه حقّا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجُباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصّاب الأملاك على العموم ظلمة. ووبال ذلك كلّه عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادّتها لإذهابه الآمال من أهله”. أنظر: المقدمة، الباب الثالث، “في الدّول العامّة والمُلك والخلافة والمراتب السلطانية”، ص 225.

(67) يضرب ابن خلدون المثل ببعض الأمصار التي عاش بها فيقول: “إنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفى قراه، وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر، وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة، وأنها أصل لها”. أنظر: مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ٩٧.

(68) يعطى ابن خلدون شاهدا تاريخياً يدعم به هذا الحكم فيقول: “.. ومثل هذا وقع لبنى العباس فإن عصبية العرب قد فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالى من العجم، والترك، والديلم والسلجوقية وغيرهم… ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي، وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها، وصار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم، ثم انقرض أمرهم، وزحف آخرا التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة”. مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ١٢٢.

(69) من الشواهد والأمثلة التى أشار إليها ابن خلدون ما حدث “بصنهاجة” بالمغرب حيث فقدت العصبية هناك منذ المائة الخامسة أو ما قبلها، وكذا دولة “بني أمية” بالأندلس فقد استولى عليها ملوك الطوائف حيث فسدت عصبيتها من العرب فتنافسوا عليها، وتقاسموها، ووزعوا ممالك الدولة فيما بينهم، وسعوا إلى تقليد ما كان سائرا في الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته… الخ. أنظر: مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ٢٧٢.

(70) عبدالعال الشامى، جغرافية العمران عند ابن خلدون، (الكويت، جامعة الكويت، ١٩٨٨)، ص ٢١٢

(71) يقول ابن خلدون: “إن كان عمر الدولة قصيرا وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة، وتراجع عمرانها، وخربت، وإن كان أمد الدولة طويلاً ومدتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد، والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد، ونطاق الأسواق يتباعد وينفسح إلى أن تتسع الخطة، وتبعد المسافة، وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها”. أنظر: مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ٢٧٢.

(72) عبد العال الشامي، مرجع سابق، ص ٢١٣.

(73) المقدمة، ص ٣٠٤.

(74) مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص ٣٤٤.

(75) سلمان الدوسري، هل تنبأ ابن خلدون بـالربيع العربي؟، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، العدد 11927، الاثنيـن 25 يوليو 2011، الرابط، تاريخ الزيارة 23 أغسطس 2016.

(76) المقدمة، ص45 .

(77) محمد عابد الجابري، إشكالية الفكر العربي المعاصر، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 2000م) ص107.

(78) المقدمة، ص53 .

(79) أحمد التلاوي، ابن خلدون وثوراتنا العربية، مصدر سابق.

(80) د. محمد جابر الأنصاري، ابن خلدون يستبق نظريات عصره، الخميس 11 يوليو 2013، الرابط، تاريخ الزيارة 23 أغسطس 2016.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close