fbpx
قلم وميدان

الإخوان والسجون وصناعة الجيل المهزوم

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ذكرنا في مقال سابق نشره المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية بعنوان “عن الجيل المهزوم والجيل الجديد“، بتاريخ 4 ديسمبر 2016، كيف تُحطم الهزيمة الأبطال الكبار، وكيف تتحول الأحلام التي بلغت إسقاط نظام وإقامة نظام لكي تصير مجرد النجاة بالنفس من المطاردة الأمنية أو العودة من المنفى الطويل، ثم كيف قد تنحرف الفكرة لتترك الجهاد والسياسة والسلطان وتعتزل في كهوف التربية والعبادة والكتابة!

 

(1) آثار عقوبة السجن

المثير في الأمر هنا أن الاحتلال حينما تمكن لم يشرع في معاقبة أصحاب الثورة والمقاومة بالموت الفظيع، بل استبدل بهذا عقوبة السجن والنفي، وهي العقوبات التي أضرَّت بالأبطال وهزمتهم وحرمتهم شرف الموت الأسطوري!

ويرفض الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو أن يكون هذا التحول في العقوبة أثرا من آثار الرحمة والإنسانية التي نظَّر لها فلاسفة التنوير، بل هي من وسائل السلطة الحديثة التي تطورت فيها فلسفة العقوبة، وهو يشير إلى أن هذه العقوبات هي على الحقيقة أسوأ من القتل بل ومن القتل بالتعذيب، ذلك أنها تحرم المُعاقَب من البطولة التي ربما تستجلب التعاطف، وتُلْحِقه بالفئات المنحرفة أو المشوهة التي ينبذها المجتمع كالمرضى والمجانين، وهي الفئات التي ينبغي إصلاحها وعلاجها وإعادة تأهيلها لتكون صالحة للحياة. لقد تغيرت فلسفة العقوبة من التسلط على الجسد بالتعذيب الشنيع إلى التسلط على الجسد والنفس والعقل بالتحكم والسيطرة1.

كان “فوكو” أول من استطاع أن يكتب هذا في وصف متماسك، إلا أن النتائج الفعلية لهذه العقوبة مرصودة من قبل فوكو ومن بعده، وقد كثرت الدراسات التي تناولت آثار السجن على المحكوم عليهم، بل وصدر هذا في روايات وأعمال مسرحية وسينمائية، وهي آثار لا تقارن بآثار القتل، ربما يمكن تلخيصها في عبارة جورج أورويل التي ذكرها في روايته الأشهر (1984) إذ يقول على لسان المحقق: “إننا لا نكترث للجرائم الحمقاء التي اقترفتها، فالحزب لا يهمه ما تأتيه من أفعال مكشوفة، إنما يهمه أكثر ما يدور في رأسك من أفكار. نحن لا نُحطم أعداءنا فحسب، وإنما نُغير ما بأنفسهم… محاكم التفتيش فشلت فشلاً ذريعاً، لقد أُنشئت تلك المحاكم لاستئصال شأفة الهرطقة، لكنها على العكس كرسَّت وجودها، ففي مقابل كل هرطوقي يُحرق بعد شدّه على الخازوق كان يظهر الآلاف غيره… محاكم التفتيش كانت تقتل أعداءها جهارا نهارا وتجهز عليهم قبل أن يتوبوا، وفي الواقع لقد كانوا يحرقون لأنهم لم يُظهروا ندامتهم أو يعلنوا توبتهم، ومن ثم كان الناس يُحرقون لأنهم يرفضون التخلي عن معتقداتهم الصحيحة، وبالطبع كان المجد كله يؤول إلى الضحية، بينما يبقى كل الخزي من نصيب المحقق… إننا لا نحطم الضال الذي خرج علينا عندما يقاومنا، بل إننا لا نقدم أبدا على تدميره طالما أنه يقاومنا، وإنما نسعى لأن نغيِّره ونقبض على عقله الباطن فنصوغه في قالب جديد”2.

 

(2) مشهد في تاريخ الإخوان

عند نهاية الخمسينيات كان الفتيان من الإخوان المسلمين قد بلغوا مرحلة الشباب، لم يكن النظام الناصري قد فطن لهم واعتقلهم فيمن اعتقلهم مطلع الخمسينيات، والآن صار هؤلاء شباباً يرون ما يحدث في بلدهم، ويريدون إعادة إحياء تنظيم الإخوان المسلمين من جديد.

ينبغي أن نُذَكِّر بأن المحنة الناصرية 1954، والتي قضت على تنظيم الإخوان الضخم لم يُعدم فيها سوى ستة أشخاص فحسب، بينما نزل بالباقين عذاب السجون، صحيحٌ أن بعضهم مات من التعذيب ولكن هذه الأعداد هي من نوعية الخسائر غير المقصودة الناتجة عن أن التعذيب والمُعذِّبين لم يكونوا محترفين كما ينبغي.

انطلق شباب الإخوان يبحثون عن القيادات القديمة التي خرجت من السجون عام 1956 ليعيدوا تحت قيادتها العمل من جديد، يقول “أحمد عبد المجيد”، وهو واحد من أولئك الشباب “لم يستجب أو يتحمس أحد من المسؤولين القدامى للعمل، بل عدَّ ذلك جنوناً أو تهوراً لمن يفكر فيه، بل أخذوا في مطاردتنا ومحاربتنا وتحذير الإخوان منا في كل مكان… كنا نرجع دائما بخفيّ حنين، وكنا نأمل دائما أننا سنجد مبتغانا، ولعلنا مع تكرار الزيارات وفتح الموضوعات المختلفة نصل لشيء، وكنا نحاول كما يقول الشاعر: حرِّك لعلك توقظ النواما، وأخيرا: وصلنا إلى طريق مسدود مع الإخوان الكبار والمشاهير”، ووصل الأمر بين الطرفين إلى حد ملتهب حتى خاف أولئك الشباب من وصول أخبارهم إلى أجهزة الأمن في تلك الأجواء الرهيبة، ولم يفصل في هذا الاشتباك سوى المرشد “حسن الهضيبي” الذي نهى من أحجموا عن الكلام في شأن من أقدموا، ونقل عنه أحمد عبد المجيد قوله لأحدهم: “إنتو خايفين من إيه ، وجماعة إيه اللي انتو خايفين عليها، ما انتو موتوها طول العشر سنين، هوه انتو فاكرين اللي قدمتموه هو ده كل شيء”3.

وليس هذا بالمشهد الجديد، وقد نقلنا في مقال سابق على صفحات المعهد المصري، فصلا من تأسيس حماس، من مذكرات عدنان مسودي، وما أشبه هذا بذاك. لكن الجديد الآن أن واحدا من أولئك الذين رفضوا هذا العرض قدَّم تفسيره لهذا الرفض، ذلك هو الأستاذ محمود عبد الحليم صاحب أول كتاب واسع في تاريخ الإخوان “أحداث صنعت التاريخ”، وكان كتابه هذا هو المعتمد والرواية شبه الرسمية للجماعة حتى أواسط العقد الأول من الألفية وصدور مجلدات “أوراق من تاريخ الإخوان”.

لقد سرد الرجل مبررات رفضه واعتزاله هذا العمل، وكان مما قال لهم: “إن الذي بين حنايا ضلوعكم من ألم ولوعة وحزن هو بعض ما عندي. لأنكم غاضبون وليس في أيديكم قيود ولا في أرجلكم أصفاد؛ بدليل أنكم جئتموني وتتحركون كما تشاءون. أما أنا وأمثالي فنحس ما تحسون، ولكن الأغلال جُعلت في أيدينا وأرجلنا، وإذا كنتم لا ترون السور المضروب من حولنا فإننا نراه محيطا بنا، والسجانون يلاحقوننا في كل مكان وفي كل وقت. وكانوا في السجن الحربي بملبسهم العسكري ظاهرين ولكنهم هنا بالملابس العادية غير معروفين.. إننا أسرى معركة، والأسير غير مُطالب بما يُطالب به الجندي الحرب، وقد أعفاه الله وأعفته القوانين لأن أمره لم يعد بيده بل صار بيد آسريه” 4، ثم استمر في موعظة طويلة خلاصتها أن هذه الأجواء لا حل لها إلا الصبر وانتظار الفرج وتهدئة هذه العواطف المشتعلة المتهورة.

وأجدني هنا مضطرا للتكرار والتأكيد على أن الواجب في حق هؤلاء هو أن نعذرهم، كيف ومنهم من هو معدود في أئمة التجديد كالشيخ محمد عبده وبديع الزمان النورسي (كما ذكرنا في المقال الماضي)، لا سيما وكاتب هذه السطور لا يضمن لنفسه شيئا إن تعرض لذرة مما تعرضوا له من العذاب، فإنما نكتب في سعة، وعافية الله أوسع لنا. وإنما نكتب هذا ونذكره لنعيد التكرار والتأكيد على أن الهزيمة تُحطم الآمال والأحلام، وتُؤثر في نفوس الناس مهما كانت كبارا، وأن السلطة الحديثة قد بلغت من التوحش والإجرام أنها لا تسوق الأبطال إلى القتل بل تريد لهم الهزيمة.

 

(3) رب يوم بكيت فيه فلما صرتُ في غيره بكيت عليه

كان المرء يقرأ قصص التعذيب حتى الموت فيمتلئ حنقاً وغضباً على الظالمين المجرمين، كما يمتلئ إعجابا بالأبطال الباسلين، كان زمانا نبكي فيه على أبطال فازوا بالشهادة فجاءنا زمن يُفتن فيه الأبطال في أنفسهم فنسأل الله لهم أن يثبتوا قبل أن يغيروا ويبدلوا من أثر الفتنة.

وكان المرء ينعى على من اعتزلوا وانعزلوا واستسلموا لحكم القوي القاهر وانصرفوا إلى التربية أو العبادة، يتمنى المرء أن لو واصلوا الجهاد والمقاومة، فجاءنا زمان لم يقنع فيه الجيل المهزوم بالاعتزال والانعزال ولم يتفرغ للتربية أو العبادة بل لا يزال متصدرا يقاتل على المناصب ويمنع الثورة أن تتقدم، يسجنها في سجنه، ويحبسها في حبسه، ويأسرها في أسره، يرفع قميص الشرعية الذي انتهكه في كل وقت. هنا يبدو الجيل المهزوم الذي اعتزل أحسن حالا وأقوم سبيلا من جيل مهزوم يمسك بتلابيب الثورة ويمنعها من المضي قدما في طريقها الطبيعي، فصاروا على الحقيقة أقوى عائق في طريقها وأعضل مشكلة من مشكلاتها.

وهنا لعلنا نفهم أمريْن لم يتسنَّ لنا فهمهما في الزمن القديم: لماذا ينفق النظام المستبد أموالاً طائلة لبناء السجون رغم أن الرصاص أقل تكلفة بكثير؟! ولماذا يحافظ النظام المستبد على من ألفهم من معارضيه، أولئك الذين خرجوا من السجون ولم تخرج السجون منهم؟!( 5).

———————————————-

الهامش

(1) ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة: علي مقلد، (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م)، ص58 وما بعدها. (بداية من هذه الصفحة يبدأ في المقارنة بين نوعي العقوبة).

(2) جورج أورويا، 1984، ترجمة: أنور الشامي، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص298 وما بعدها.

(3) أحمد عبد المجيد، الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965، نسخة إلكترونية، ص32، 33، 48، 49.

(4) محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ، ط3 (الإسكندرية: دار الدعوة، 1994م)، 3/457 وما بعدها.

(5) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close