fbpx
دراسات

آليات مواجهة الدعاية السوداء والرمادية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة

من الأهمية والرصانة تحرير مصطلح “إعلام الثورة”، ووضع محددات ومرتكزات للخطاب الثوري الإعلامي في وسائل الإعلام، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تأصيل المصطلح وفق أسس مهنية، خشية التحول إلى نمط “الإعلام والإعلام المضاد” السائد الآن في المشهد المصري.

يعزز ذلك واجب الوقت فيما أسميه بـ “كتاتيب الوعي”، لبناء تراكم ثقافي ومعرفي لدى المتلقي، يوفر له إمكانية الرصد والتحليل، واستقراء المضمون، وإدراك حقيقة الرسالة الإعلامية، ودلالات الصوت والصورة، بما يشكل على المدى البعيد حائط صد أمام التضليل الإعلامي، وعلى المدى القريب قفزة نوعية في مواجهة أدوات الدعاية السوداء والرمادية .

موضوع الدراسة محوري وهام، وتتعاظم أهميته في ظل النجاح الذي حققه “الإعلام الأسود” في معركة إجهاض مكتسبات ثورة 25 يناير، في مقابل فشل وإخفاق ما يسمى بـ”قنوات الثورة” أو “الشرعية”، وهو الأمر الذي يتطلب البحث عن فضاءات جديدة يمكن السير إليها، والسيطرة على مضامينها، أو بمعنى أدق التفوق في ميادين بديلة توفر منصات وآليات لتعزيز “إعلام الثورة” من جانب، وإجهاض خطاب “الثورة المضادة” و”الدولة العميقة” من جانب آخر .

دراسة “إعلام الثورة: آليات مواجهة أدوات الدعاية السوداء والرمادية”، تبحث بشكل مفصل “بدائل المواجهة وخيارات التمدد في الفضاء الإعلامي”، من خلال  التركيز على برنامج عمل تنفيذي يقدم قراءة وافية لثلاث مرتكزات رئيسية هي :

*الأدوات

*البرنامج

*التنفيذ

المحور الأول: الأدوات

خارطة الأدوات تتمدد يوما بعد الآخر في ظل ثورة هائلة في مجال تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال، لكن الحديث عن الأدوات، يجب أن يستند إلى إرادة حقيقية، وأرض صلبة أمام صانع القرار، بما تتطلبه تلك الإرادة من توافر مقومات صناعة الميديا والبروباجندا، لاسيما وأن التقليل من خطورة الإعلام، وعدم الإدراك الكامل لتبعات ومآلات ذلك، ربما يعد أحد الأسباب التي تقف وراء “غيبوبة” صانعي القرار على جبهة إعلام الثورة .

أن تأتي متأخرًا خير من أن لا تأتي أبدًا، وهناك تجارب عالمية كثيرة لقوى كان يظن البعض أن العالم تجاوزها إعلاميا، فإذا بها وفق قرارات مدروسة، وخطط واضحة المعالم، تمتلك إمبراطوريات إعلامية وبحثية تدعم قواها في ميادين ما يسمى بـ”الحرب الناعمة”.

يقول الرئيس السابق لشبكة قنوات التلفزة البريطانية المستقلة ITN ، ستيوارت برفيس: «إنّها الحرب الناعمة التي ترث الحرب الباردة. الروس والصينيون يدعمون أنظمتهم بكل الوسائل، وبريطانيا لا تنفق ما يكفي، وهذا واضح». وهو نفسه ما أشار إليه الرئيس السابق لـBBC Global News ، ريتشارد سامبروك، حين أكد أنّ «ميزانية الأخبار العالمية لا تشكّل إلا عشر ميزانية القناة الصينية مثلاً».

تنوع الأدوات يثري الآلة الإعلامية لأي تنظيم أو فصيل سياسي، حركة حماس “نموذجا” ربما تكون المقاربة معها كنموذج تبدو أكثر واقعية نظرا لكونها حالة في الواقع العربي، فضلا عن كونها تواجه احتلالا وحربا استخباراتية وعسكرية من إسرائيل وأعوانها، نفس الحال مع حزب الله، وتنظيم الدولة الإسلامية في العرق والشام “داعش”، وغيرهم من تنظيمات سياسية وجماعات مسلحة تفهمت مبكرا أهمية الوجود الإعلامي على الساحة، وكسب مواقع مؤثرة على الشبكة العنكبوتية “الانترنت”، وغزو شبكة التواصل الاجتماعي .

يعد تنوع البنى التحتية للإعلام أحد أقوى آليات “الحرب الناعمة” التي باتت خيارًا حتميًا لقوى الثورة في مواجهة “الدولة العميقة” المتمددة إعلاميا وسياسيا واقتصاديا، ويشكل الإعلام أبرز وأخطر قواها على مدار 5 سنوات منذ ثورة الـ 25 من يناير 2011 .

ترتيب الأدوات قد تحكمه معايير مالية، وجدوى اقتصادية، فضلا عن طبيعة المستقبل للرسالة الإعلامية، لكن من الأهمية الأخذ في الاعتبار، طبيعة الدور الذي تقوم به كل أداة على حدة، ونوع الجمهور الذي تستهدفه، بما يتكامل في النهاية في إتجاه تحقيق الهدف المرجو من صناعة “إعلام ثوري” إذا جاز إطلاق هذا التعبير.

يشمل محور “الأدوات” عشر منصات تشكل آلة رصينة لـ”إعلام الثورة”، هي بالترتيب وفق الأهمية:

أولاً: مواقع التواصل

ليس من المبالغة القول أن مواقع التواصل الاجتماعي في الطريق لتصدر المشهد الإعلامي ربما لعقود، خاصة في ظل تأكيدات علمية تفيد بتفاقم حالة الانعزال حول الأجهزة اللوحية، وتعاظم ظاهرة “المواطن الصحفي” الذي بات يمتلك صحيفة الكترونية ناطقة باسمه، ما يحرره من قيود التبعية للإعلام الرسمي، أو الحزبي .

تمنح وسائل التواصل الاجتماعي، والتي اصطلح على تسميتها الإعلام الاجتماعي أو الجديد، مساحة من التعبير بوسائط متعددة ولغات مختلفة، فقد أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي فرصاً شتّى لمستخدمي الانترنت لصنع حراك جمعيّ حول قضية ما، فضلا عن منح المستخدم إمكانية الاستغناء عن وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والإذاعة والصحيفة)، التي تتحيز في العديد من القضايا لصالح الجهة المالكة سواء كانت الدولة أو القطاع الخاص أو قوى إقليمية .

بحسب بيانات “موقع أرقام ديجيتال” المتخصص في الشأن التقني، فقد ارتفعت معدلات الاقبال على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، لينكد ان، أنستجرام، وى تشات، رن رن) كواحدة من الخدمات الاساسية على شبكة الانترنت لتسجّل مع نهاية العام الماضي 2014  قرابة 1.97 مليار مستخدم من جميع أرجاء العالم .

وأظهرت البيانات أن شبكة “الفيسبوك” وحدها تصدرت المشهد في عالم التواصل والاعلام الاجتماعي حتى نهاية العام الماضي مسجلا أكثر من 1.35 مليار مستخدم، كما ذكرت البيانات أن معظم مستخدمي مختلف شبكات التواصل الاجتماعي يستعملونها ويتبادلون الآراء عبر منصاتها من خلال الهواتف الذكية أكثر من أجهزة الاتصالات الأخرى مثل: الأجهزة اللوحية والحواسيب الشخصية والمحمولة .

واستنادا إلى هذه البيانات؛ فإن عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم شكلوا مع نهاية العام الماضي نسبة تصل إلى 66 % من

إجمالي عدد مستخدمي الانترنت بشكل عام حول العالم، والمقدر بنحو 3 مليارات مستخدم .

وتوقعت الاحصاءات استمرار وتوسع قاعدة مستخدمي مختلف شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، وذلك مع التطويرات والتحسينات التي تجريها هذه الشبكات على خدماتها ومنصاتها، يعزّز ذلك انتشار شبكات الانترنت عريضة النطاق عالية السرعة والانتشار الكبير لاستخدامات الهواتف الذكية التي تتيح للمستخدم استعمال الإنترنت ومختلف التطبيقات بما فيها تطبيقات التواصل الاجتماعي أثناء تنقل المستخدمين .

إزاء التطور المتزايد بشبكة التواصل الاجتماعي، تتزايد الحاجة نحو ضرورة إطلاق غرف عمليات لصناعة رأي عام، وتخصيص مجموعات محترفة لتوجيه بوصلة مؤشرات مواقع التواصل، والهاشتاج، وإدارة النقاشات مع الجمهور بشكل راق ومؤثر، وصناعة ما يعرف بـ”الإعلام البديل”.

ثانياً: الصحافة الالكترونية:

تؤكد جميع المؤشرات المتعلقة بسوق التوزيع والطباعة في العالم، أن الصحافة الورقية إلى إندثار، أو على الأقل انحسار وتراجع، في مقابل تمدد وانتشار الصحافة الالكترونية بشكل يتعاظم بشكل كبير ومتسارع، في ظل دراسات علمية تؤكد تفاقم انعزال مدمني الأجهزة اللوحية التي باتت تتصدر أبرز شاشات متابعة المواقع الالكترونية.

المواقع الالكترونية ا يرتبط نجاحها وقدرتها على التأثير في المشهد، بعددها كما، بقدر ما يرتبط بقدرتها على نقل الخبر بشكل مهني، وتقديم معالجة موضوعية له، وقراءة ما بين السطور، بشكل تحليلي احترافي، يلتزم المصداقية، ويجيب على كافة تساؤلات المتلقي، مع أهمية مزجه بخدمات الصورة والفيديو و”الساوند كلاود” والفيلم الوثائقي والتعليقات والتسويق الالكتروني .

مئات وربما آلاف المواقع الإخبارية والاجتماعية والرياضية والترفيهية تعج بها الساحة المصرية، تضح يوميا مئات الآلاف من المواد والمحتوى الإعلامي، تختلف فيما بينها في المضمون ومحتوى الرسالة، والجمهور، وجهة التمويل، لكن يبقى التأثير يتراوح بين نحو 100 موقع تقل أو تزيد قليلا .

كعكة ضخمة من القراء تتصارع عليها آلة الصحافة الالكترونية، تارة بسرعة الانفراد، وتارة بالخدمات، وثالثا بالفيديو والصورة، لكن الأهم والأخطر من ذلك، تحول الإعلام المصري خلال السنوات الأخيرة من إعلام الخبر إلى إعلام الرأي، وتلوين المعلومة، وصبغها بشكل سياسي يتوائم مع بوصلة الممول، أو الجهة المتحكمة في السياسة التحريرية لأي منبر إعلامي .

في ضوء ذلك – وعبر تجارب ثرية في “اليوم السابع” و”بوابة الوفد” و”مصر العربية” و”المصريون” والعديد من المواقع المصرية والعربية – من الأهمية رصد بوصلة التمويل والسياسة التحريرية لأي منبر، للخروج بتوجهات ومضامين المحتوى الذي يقدمه، ومدى تأثيره، والبحث عن الجديد للتميز والانفراد، وصناعة مصداقية وتأثير على أرض الواقع .

تظل الحقيقة عنوان الخبر، والمعلومة البطل الرئيس، والمصادر الموثوقة دعامة البناء الخبري، والمهنية شعار النجاح، والمؤسسية الأرض الصلبة لأي مؤسسة تترقب النجاح والاستمرار، وفق خطط واضحة، وتمويل جيد، ورقابة شفافة، وآليات عمل تتماشى مع سرعة الحدث، وعملية تسويقية وترويجية تحقق معادلة الانتشار، والتأثير، والربح .

ثالثاً: موقع الفيديو

تظل الصورة أسبق من الكلمات، ووفق طبيعة الحالة البيولوجية والنفسية للإنسان، فإن الصورة المتحركة تخطف الأبصار، فضلا عما تحققه من تأثير يغني عن آلاف الكلمات، وسهولة في التواصل بها مع مختلف الفئات والأعمار، أيا كان الجمهور المستهدف .

أهمية الصورة المتحركة دفعت ولا زالت قوى عظمى في العالم إلى العمل على الاستئثار بالصورة، والعمل على بثها أو حجبها بحسب الحاجة إليها، فضلا عن تسابق شرس بين وكالات الأنباء في هذا المضمار .

تأثيرات “الفيديو” تتعاظم، حتى بات موقع مثل “يوتيوب” يستأثر بحجم مشاهدات تتجاوز المليارات يوميا حول العالم، تجاوز عدد مستخدميه مليار مستخدم في الشهر، هناك زائر واحد لموقع YouTube من بين كل اثنين يستخدمان الإنترنت، يحتل المركز الثالث على مستوى العالم حسب إحصائيات اليكسا بعد موقعي جوجل وفيس بوك، أكثر من 700 مليار هي عدد مشاهدات مقاطع الفيديو على الموقع في عام واحد، 100 مليون هي عدد مشاهدات مقاطع الفيديو عن طريق الهواتف يومياً .

وتحاول قوى الثورة المضادة في مصر استنساخ التجربة بشكل مصغر “فيديو7 ” نموذجا، ومواد المحتوى المدعوم بـ”الفيديو” في مختلف المواقع الالكترونية باتت ركنا رئيسا يتصدر أجندة الصحافة الالكترونية، ناهيك عن تفوق تجارب مصرية على “يوتيوب” وتحقيقها نتائج مذهلة، بصرف النظر عن طبيعة المعالجة، مثل تجارب باسم يوسف و”جو تيوب” و”الشاب أشرف”، بالإضافة إلى إثراء صناعة الأفلام الوثائقية التي باتت تضاهي في الأهمية صناعة السينما، أفلام (يوميات ثورة، صناعة الكذب، الميدان، المندس)، نموذجا.

رابعاً: الصورة

الصورة تتحدث، وفي كثير من الأحيان تغني عن مئات الأسطر والكلمات، وهو الأمر الذي جعلها محل اهتمام، واحتكار، وسبق صحفي تتصارع عليه وكالات الأنباء العالمية، وأحيانا تدفع الدول والحكومات الكثير للحصول عليها، أو لحجبها خشية تداعياتها .

الصراع يحتدم على الصورة، وحجم التأثير الذي تحدثه كفيل بتغيير سياسات دول وقرارات ساسة، صورة الطفل السوري الغريق إيلان، صورة دهب وهي تلد مقيدة بسلاسل الاعتقال، ولجان الانتخابات البرلمانية الخالية من الناخبين، نموذجا .

إزاء تعاظم أهمية الصورة، في ظل ثورة هائلة في وسائل الاتصال والتكنولوجيا كفيلة بنقلها عبر مختلف أنحاء الكرة الأرضية في لحظات معدودة، ترتفع معدلات مستخدمي الصور، هناك موقع “فيلكر” الذي يستضيف أكثر من 5 ملايين صورة، وشبكة “أنستجرام” المخصصة للصور ومشاركتها وتبادلها مع الاخرين، أوضحت الاحصاءات أن عدد مستخدمي هذه الشبكة سجل مع نهاية العام الماضي قرابة 300 مليون مستخدم شكلوا نسبة تصل إلى 15 % من إجمالي مستخدمي مختلف شبكات التواصل .

وإلى جانب “أنستجرام” تشير الإحصاءات إلى أن شبكة “بنترست” وهو موقع يتيح مشاركة ونشر الصور، تضم  70 مليون مستخدم، شكلوا نسبة تصل إلى 4 % من إجمالي أعداد مستخدمي مختلف شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم .

لا تمتلك المنطقة العربية أي وكالة متخصصة في مجال الصور، هي فقط مجرد ناقل ومستعير للصورة، والتي نالت نصيبها أيضا من “التوجيه” و”التوظيف” السياسي، والتأثر ببوصلة رأس المال، والأيدلوجية التي تقف وراء الجهة المالكة لـ”الكاميرا”، حتى أغلب مواقع الصحافة الالكترونية في مصر تعتمد على خدمات الصور التي توفرها محركات البحث خاصة “جوجل”.

ربما يصعب الدخول إلى ماراثون المنافسة مع “فيلكر” و”أنستجرام”، لكن من الحكمة الحبو في هذا المضمار على الأقل بـ”موقع” متخصص، وصناعة أرشيف يوثق تاريخ الثورة المصرية، ومراحلها، واللحظات المفصلية التي مرت بها، والمجازر التي تم ارتكابها ضد قواها الحية، من أجل تأريخ ثورة شعب، وصون ذاكرة الأجيال القادمة، والحيلولة دون تفشي جرائم الفوتوشوب والتزييف، ما لحق بتفاصيل “مذبحة فض اعتصامي رابعة والنهضة” نموذجا.

خامساً: التوك شو

أكثر من 55 برنامجا للتوك شو يوميا، تمارس عملية “غسيل مخ” للمشاهد المصري على مدار اليوم، تطبق سياسة الأمر الواقع، وتمهد الأرض لأية انقلابات سياسية، وتقصف من تشاء، وتحمي من تشاء .

بحسب تأكيدات رئيس الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة أسامة صالح فقد تمت الموافقة على إنشاء 16 قناة فضائية جديدة بينها 5 تابعة لشركات قائمة بالفعل بالإضافة إلى 11 قناة تابعة لشركات جديدة تم تأسيسها عقب ثورة يناير، وأغلبها يقف ورائها رجال أعمال، وتمولها مليارات مشبوهة تم جمعها في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ما يضع العديد من علامات الاستفهام حول العديد من القنوات التي تنفذ أجندات بعينها دون النظر إلى مصالح الوطن .

قد ينخدع المشاهد العادي بكاريزما مقدم البرنامج، أو بريق ضيوفه دون أن يسأل نفسه، من الممول، ولماذا، ولصالح من، وما الهدف، لاسيما وأن تكلفة إنشاء قناة والاستمرار في تقديم برامجها يكلف الملايين، وهو ما يجعل التشكك – منطقيا – في النوايا الحقيقية للقائمين على فضائيات ما قبل وما بعد الثورة.

شبهة التمويل – بمليارات تم جمعها في عهد مبارك- تطارد برامج “التوك شو”، ومضمون الرسالة الموجهة للمتلقي ليس بعيدا عن أجندات بعينها، وتيارات ملوثة بتلقي تمويل خارجي لخدمة أجندات إقليمية ودولية.

من المعلوم أن هناك علاقة بين برامج «التوك شو» ومفهوم اقتصاديات الفضائيات، لكن الحقيقة أنه يوجد لدينا العشرات من علامات الاستفهام حول الجدوى الاقتصادية لبعض المحطات في الوقت الحالي، والتي لا تحقق مكسبا بما يغطي نفقاتها، وأخرى لا تبدي شفافية في الإنفاق وليس لديها بيانات تبين حجم الإيرادات، والمفارقة أنه في ظل الركود الاقتصادي وانخفاض الإنفاق على الإعلان تزداد حجم الفضائيات، ويطل علينا ممولون لها ليس لهم علاقة بالإعلام، الأمر الذي يؤكد تعرض الإعلام المصري خاصة خلال في مرحلة ما بعد الثورة إلى “تسييس” بأموال تفوح منها رائحة المؤسسة الأمنية والاستخباراتية لتنفيذ أجنداتها والحفاظ على مكاسبها وإمبراطوريتها الاقتصادية قبل وبعد الثورة .

حالة الشد والجذب، والجدل الصاخب المسيطر على القنوات المصرية، بعيدا عن طنطنة الرسالة الإعلامية والمعايير المهنية، ليست عشوائية، خاصة أن القصف المدفعي يستهدف بشكل دائم أفكارا وتيارات بعينها، ويدعم ذلك أن من يتولون دفة القصف “نخبة” لا تتجاوز بضعة عشر تتنقل من استديو لآخر؛ للنيل من فريستها .

الملفت في الأمر أن قضايا الحريات والفقراء وأزمات البطالة والعشوائيات والتسول وأطفال الشوارع وغلاء الأسعار وتزايد نسب العنوسة والطلاق، وتدني الأجور، غابت تماما – بفعل فاعل- عن خريطة “التوك شو”، والتي تحولت إلى مدفعية من العيار الثقيل يمولها “فلول” لتنفيذ أجنداتهم، والحفاظ على مكاسبهم قبل وبعد الثورة .

التساؤل يطرح نفسه.. لماذا لا تمتلك الثورة مدفعية “توك شو” من العيار الثقيل، لاسيما وأن هذا السلاح كان له تأثيره الجوهري في إسقاط مكتسبات ثورة يناير، وتفريغ التجربة الديمقراطية من محتواها، وإسقاط المجتمع بشكل متعمد في مستنقع الكراهية والغوغائية والأمية السياسية والفكرية .

مدفعية “توك شو” تأخذ وضعية الهجوم، بدلاً من اعتماد سياسة التبرير والدفاع، فالهجوم خير وسيلة للدفاع، وفتح ملفات قروض ملاك القنوات، وبيزنس التوك شو، وصحفيى الفلول، وإعلام “الثورة المضادة” يمنح قوى الثورة فرصة كسب “موقعة الفضائيات”، التى تهدد مشروعهم.

يمكن الاستعانة بوجوه محترفة غير مؤدلجة، تحترم التيار الإسلامى، وتدعم إرادة الشعب التى جاءت به إلى سدة الحكم، مع منحهم حرية النقد والانفتاح، ما يحقق “توازن ردع” مع آلة إعلامية ثقيلة تشوه أية منجزات انتخابية تأتى بالثوار أو الإسلاميين.

توك شو بشكل محترف، يجنب الثورة الكثير من المعارك، ويؤمن ظهورها من نيران “مارينز الإعلام”، ويردع خصومها إذا فكروا فى التمادى بتوجيه الإهانات والاتهامات دون سند أو دليل، ويجهض حرب “الدعاية السوداء”.

سادساً: القنوات الفضائية

إثراء الوجبة الإعلامية المقدمة للمشاهد، يوفر فرصة لكسب أرض جديدة في ميدان “الحرب الناعمة”، وهو ما يوصف في تكتيكات إعلام الثورة المضادة بـ”دس السم في العسل”، وهو أمر غير أخلاقي لا يمت لميثاق الشرف الإعلامي والمجتمعي بصلة، لكن من الحكمة تطويع هذا التكتيك – وفق ميثاق اخلاقي- بما يخدم مباديء وقوى الثورة في أي مجتمع .

بشكل أوضح يظل المتلقي أسير مائدة شهية تقدم الفيلم، والمسلسل، والأغنية، ومباراة الكرة، وبرامج المسابقات، والطهي، والفتاوى، والمنوعات، والترفيه، والمادة الإعلانية، وهو الأمر الذي يحقق مكاسب جمة، أبرزها تضمين ذلك المحتوى الرسالة السياسية المراد توصيلها من جانب، والاستئثار بعين وعقل المشاهد بعيدا عن متابعة قنوات الدولة العميقة من جانب آخر .

تأثيرات القناة الفضائية تتمدد، بفعل التمويل السخي من حكومات دول ورجال أعمال، وبات النمط الجديد المسيطر على الساحة “المجموعات الإعلامية”، إم بي سي نموذجا، مجموعة قنوات سي بي سي، والأخيرة لها تجربة مؤثرة – يجب دراستها- في إجهاض ثورة يناير وتشويه قوى الثورة .

ومنذ سنوات تتجه المنظومات الإعلامية “المؤدلجة” إلى إطلاق عدة منصات “قناة + صحيفة ورقية + موقع الكتروني+ موقع فيديو+ انتاج سينمائي ووثائقي”، لمخاطبة أكثر من شريحة، وجذب جمهور مختلف، وتعزيز عملية التأثير عبر منصات مختلفة .

في هذا السياق يجب التأكيد على أن فلسفة “البث” باتت تعتمد على ملاحقة المشاهد أيا كان، في البيت من خلال “الفضائية”، في العمل عبر “الصحيفة الورقية” أو “الموقع الالكتروني”، في السفر ووسائل المواصلات من خلال “مواقع التواصل”، في الشارع والمول والمصيف عبر خدمات “الهاتف المحمول”.

سابعاً: مواقع البحث والتوثيق والأرشفة

تتزايد الحاجة لمراكز ومواقع الثوثيق والتأريخ والأرشفة، في ظل تكالب الأحداث، وتسارع وتيرتها، فضلا عن حالة التدفق المعلوماتي، التي تواكب الأحدث الجسام مثل ثورات الربيع العربي، وما يلاحقها من حملات طمس وتشويه وتزييف للوقائع بشكل مخل يؤثر على العقل الجمعي للشعوب، والأجيال القادمة .

آلية التوثيق والأرشفة في حاجة للتطوير، والإبداع، بشكل يضمن الحفاظ على ذاكرة الأمم والشعوب، ويحول دون تزييف الوعي، خاصة إذا ما نظرنا إلى الإعلام والدعاية السوداء من منظور رئيس يؤكد أن الحرب الناعمة إنما هي معركة وعي في الأساس، ولعل ما حدث لثورة25 يناير من تشويه وتزييف سواء فيما يتعلق بمجريات أحداثها، أو بقواها الفاعلة، والمضادة، وحتى بشعاراتها وأهدافها ونتائجها، يعزز ما أدرجته الدراسة من ضرورة تسليط الضوء على هذا المرتكز كأحد الأدوات الهامة التي يجب إدراجها ضمن بدائل المواجهة وخيارات التمدد في الفضاء الإعلامي .

تجربة “ويكيبيديا”، وخطورة محركات البحث العملاقة على الشبكة العنكبوتية في التحكم البحثي والمعلوماتي، وما أثير عن حذف أرشيف الثورة المصريات من شبكة الانترنت، وضياع كمية كبيرة من أخبارها عن الفترة ما بين اندلاع ثورة 25 يناير 2011 حتى 30 يونيو 2013، خاصة الأخبار ذات الصبغة السياسية التي تخص أحداث 25 يناير وقضايا قتل المتظاهرين وتصريحات المجلس العسكري فترة توليه حكم مصر، كل ذلك يحتم بحث جدوى الاستثمار السياسي والثقافي والاقتصادي في مواقع البحث والتوثيق، وهو الاستثمار الذي فطنت إليه الصين، وهناك موقع “بايدو” الذى يقوم بدور محرك البحث الشهير “جوجل”٬ وهناك أيضا “إيكاشا” و”إيكسون” ويقومان مقام موقع “فليكر” لتبادل الصور٬ وهناك “كايشين” و”سينا” و”تيسينت”٬ وهى المواقع البديلة لتويتر ومواقع المدونات٬ وحتى موقع “ويكيبيديا” الموسوعى لديه نظير آخر صينى هو “هودونج”٬ أما موقع يوتيوب للأفلام والفيديوهات٬ فله فى الصين ثلاثة بدائل منها “تودو” و”يوكو”.

ثامناً: الكوميكس

فن جديد طغى وتجاوز فن “الكاريكاتير، من فنون التصوير والفوتوشوب والجرافيك، التي يتعاظم تأثيرها، وأزعم، أن شأنا ينتظره في السنوات المقبلة، شريطة تطوير هذه الأداة، وتنويع رسائلها، ومضامينها، واجتذاب المبدعين حولها .

حتى الآن لم تشهد الساحة المصرية “موقع كوميكس”، وتظل المحاولات القائمة متناثرة، وعشوائية، رغم تداولها المتعاظم عبر مواقع التواصل الاجتماعي “شخصية أساحبي نموذجا”.

اللافت أن “الكوميكس” أداة يسهل بها مخاطبة الشرائح الدنيا من فئات المجتمع دون تنظير أو فلسفة، كما يمكن تحميلها برسائل عدة موجزة وناجعة، هذا بالإضافة إلى ما يكتنف هذا الفن من روح فكاهية قادرة على جذب المتلقي، بل والتأثير فيه.

تاسعاً: المواطن الصحفي

تتعاظم ظاهرة المواطن الصحفي، في ظل ما صنعه الإعلام الاجتماعي من دور في إطلاق الثورات التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط والاحتجاجات التي عمت العديد من الدول الأوروبية وأمريكا، ما يعتبر إضافة جديدة إذ صنعت هذه الأحداث ما يسمي بالمواطن الصحفي، وصار الشخص الذي يعيش الأحداث صانعا ومشاركا فيها، له أن يصورها أو يكتب عنها ويرسل ما يصور أو يكتب إلى وسائل الإعلام من مناطق تتعرض لحصار أمني، أو قمع من السلطة الحاكمة، وهي أداة يجب الاهتمام بها وتطويرها في ظل القيود التي تتعرض لها حرية الإعلام في الدول التي تحكمها أنظمة سلطوية .

من المتوقع استمرار وتمدد ظاهرة المواطن الصحفي، مع توسع قاعدة مستخدمي مختلف شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، وذلك مع التطويرات والتحسينات التي تجريها هذه الشبكات على خدماتها ومنصاتها، يعزّز ذلك انتشار شبكات الانترنت عريضة النطاق عالية السرعة، والانتشار الكبير لاستخدامات الهواتف الذكية التي تتيح للمستخدم استعمال الإنترنت ومختلف التطبيقات بما فيها تطبيقات التواصل الاجتماعي أثناء تنقل المستخدمين .

وتفرض ظاهرة “المواطن الصحفي” نفسها على القضية محل الدراسة، وقد تتصدر في يوم ما خيارات التمدد في الفضاء الإعلامي، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر سكانها من الشباب في العالم، تحت سن 25 يشكلون ما بين 35-45 ٪ من السكان في كل بلد، ويشكلون غالبية مستخدمي وسائل الإعلام الاجتماعية، بما في ذلك حوالي 17 مليون من مستخدمي فيسبوك ، 25,000 حسابات تويتر و 40,000 مدونات نشطة ، بحسب تقديرات مجموعة المستشارين العرب .

استقراء المستقبل يقول أننا في انتظار جيش من الإعلاميين والصحفيين والمدونين والنشطاء على مواقع التواصل، يمكن في حال العمل على رصد أبعاد تلك الظاهرة، ووضع خطط لتعزيزها، وتطويرها، ونشرها، وتدعيمها عبر توفير آليات وقنوات للإبداع، يمكن أن يشكل ذلك منظومة إعلامية تتجاوز وسائل الإعلام التقليدية، وتقهر كافة القيود التي تضعها الأنظمة الحاكمة على حرية الرأي والصحافة .

عاشراً: ألعاب الانترنت:

ألعاب الإنترنت، أضحت نوعا من الدعاية الصريحة، وأداة تحقق ما يمكن أن يفشل فيه المقال الصحفي، أو البرنامج التليفزيوني، لاسيما وأنها تخاطب غريزة طبيعية لدى المتلقي تتعلق برغبته في اللهو، فضلا عن كونها قالبا ترفيهيا يحوي مضمونا سياسيا أو فكريا، ويصل بالرسالة المراد توصيلها بشكل غير مباشر، ربما يكون أنجع من مؤثرات أخرى .

حتى الآن لم تنل ألعاب الانترنت، حصتها من التوظيف السياسي والإعلامي، ولم يفطن الكثير إلى خطورتها، أو بمعنى أدق إلى مكاسبها في الحرب الناعمة التي بات عمادها الإعلام والانترنت.

تنظيمات مسلحة كانت الأسبق في توظيف تلك الأداة لخدمة مشاريعها السياسية وخططها العسكرية، مثل لعبة “القوة الخاصة” التي أنتجها حزب الله، والتي تقوم علي محاكاة الغارات التي شنها حزب الله اللبناني علي إسرائيل لخطف الجنود في عام 2006، والهجوم علي الدبابات الإسرائيلية في جنوب لبنان، وإطلاق صواريخ كاتيوشا علي المدن الإسرائيلية .

تثوير المجتمع، وإحداث حالة حراك لا شك سيتطلب “أدلجة” لأداة مثل ألعاب الانترنت، الأمر الذي يمنح آليات مواجهة أدوات الدعاية السوداء والرمادية، قوة دفع وخيار نوعي غير مألوف، لم يستهلك بعد، على الأقل في الساحة المصرية والعربية .

المحور الثاني: البرنامج التنفيذي

صناعة “إعلام ثوري” أمر يستحق التخطيط، وتثوير المجتمع بكافة فئات وطبقاته يتطلب دراسات وافية لرصد مراكز التحكم والقوة، وعناصر الوهن والخلل في البيئة الحاكمة، على مختلف المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في نفس السياق وعلى خط مواز تبرز أهمية قراءة أدوات وآليات الطرف الآخر، وتحليل خطاب الدعاية السوداء والرمادية، وتفنيد مفرداتها، واستقراء ما وراء مدلولاتها، الأمر الذي يعد لبنة رئيسة في تشييد برنامج عملي، يستلهم تجارب الآخرين، ودروس التجربة المصرية، ومآلات الربيع العربي، متسلحا برؤية علمية منهجية في بناء إعلام مهني رصين ينقذ هوية الإنسان المصري، ويحفظ مقومات الدولة المصرية .

المحور الثاني من الدراسة والمعنون بـ”البرنامج” يتضمن ثلاث مرتكزات رئيسة، يراها الباحث نقطة انطلاق هامة نحو المؤسسية في بناء إعلام وطن، وثقافة أمة، حتى لا يتحول الأمر إلى تجارب فاشلة، أو أدوات إعلامية أشبه بنشرات حزبية ضيقة، أو منشورات سياسية، أو التحول إلى خط التضاد المناوئ لموضوع الدراسة، بمعنى أدق يتحول الإعلام الثوري المراد تصنيع آلاته وآلياته، إلى دعاية “بيضاء” أو بروباجندا لجماعة أو حزب، ما يفقده تأثيره، ومصداقيته في أقل وقت .

المرتكزات المراد تسليط الضوء عليها تشمل ثلاثة عناصر واضحة المعالم :

أولا: التخطيط

مرئيات الواقع، والتحديات الجسام التي تفرضها “الحرب الناعمة”، تفرض معطيات جديدة عند التخطيط لأجواء معركة تمهيد الأرض، ووضع نقاط منصات الانطلاق، ورسم سياساتها التحريرية، وتسويق المنتج النهائي لآلة  التثوير، وتقييم الرسالة والأداء، ورصد النتائج والتداعيات .

البناء التخطيطي في هذه الدراسة يستلزم مراعاة عدة أسس، نشير إليها بإيجاز :

أولا: تقييم التجارب السابقة والحالية التي تقترب بشكل أو بآخر من مسار “إعلام الثورة”، وذلك لرصد عوامل النجاح والفشل، واستقراء مواطن القوة والخلل، وتلافي السلبيات والأخطاء .

ثانيا: تحديد مضامين وأولويات خطاب “إعلام الثورة”، وصياغة الرسالة المراد إيصالها، ووضع “ستايل بوك” لمفردات ذلك الإعلام المراد به تثوير المجتمع والأمة .

ثالثا: اختيار الآليات المناسبة، في الوقت المناسب، وفق معطيات وموازين المعركة الدائرة، هناك وسيلة عفا عليها الزمن قد لا تستدعي الضرورة إعادة توظيفها، ووسيلة أخرى من الحكمة الدفع بها الآن، وثالثة يجب استباق الخطى إليها قبل الطرف الآخر .

رابعا: دراسة خطاب الدعاية السوداء والرمادية، ورصد محدداته ومرتكزاته، تحليل بوصلته ومؤشراته، نوع الجمهور المستهدف، رقابة ورصد أداء القائمين عليه، قياس مداه وتأثيراته، بما يشكل نقطة انطلاق واضحة المعالم عند التخطيط لصناعة “إعلام الثورة”.

خامسا: البعد الجغرافي يفرض نفسه عند وضع خارطة “الإعلام الثوري”، نظرا للتجاذبات الإقليمية والدولية التي تشهدها المنطقة، ورؤية المتلقي عند النظر إلى الموقع الجغرافي الذي تنطلق منه تلك الأداة أو غيرها، عاصمة “البث” تعطي انطباعات معينة لدى الجمهور، لا سيما في ظل توظيف سياسي من قبل الإعلام المضاد لتلك “الثغرة” إذا جاز استخدام ذلك التوصيف، الحرب الإعلامية في مصر ضد قناة “الجزيرة” نموذجا.

سادسا: وضع خارطة تشمل أهل الخبرة والكفاءة، والطيور والكفاءات المهاجرة، بما يوفر خيارات عدة تتيح توظيف الطاقات والكفاءات بشكل يخدم المهنية في المقام الأول وليس تنظيما بعينه، ويعزز إدارة المنصة الإعلامية بأهل الكفاءة، وليس الثقة، ما يكسب الإعلام المهني المصداقية وقوة التأثير، ويطيل مدى استقراره ونجاحه .

ثانيا: التمويل

الإعلام صناعة مكلفة للغاية، ومعضلة التمويل تؤرق الجماعات والحركات التي تبحث عن موطىء قدم في ميدان “الحرب الناعمة”، ما يتطلب أبحاث ودراسات من أهل الخبرة، لتفادي مصير الغلق أو التوقف، ذلك المصير الذي طالما طارد الإعلام الذي يقف خارج الحظيرة الرسمية، أو يتعرض لضغوط داخلية وخارجية، الأمر الذي يتطلب دراسة متأنية عن الأوضاع المالية وموازنات التمويل في قنوات “الشرق، مكملين، مصر الآن، الثورة، الشرعية، رابعة، الجزيرة مباشر مصر”، للخروج بمعالم واضحة لأبعاد أزمة التمويل التي تضررت منها قنوات تعبر كلا منها عن الخط الثوري بمسافات مختلفة، وسبل الخروج من تلك الأزمة، وتفاديها، مع ضمان تأمين مصادر واضحة ومشروعة، وتتسم بالديمومة لصناعة إعلام قد تستمر الحاجة إليه لسنوات، وربما لعقود.

قضية التمويل تستحق تسليط الضوء بشأن عدة اعتبارات ومسارات، أوجزها فيما يلي:

أولا: الإرادة والقرار، وترتيب منظومة الإعلام في سلم أولويات الحكومات، أو الحركات السياسية، أو الجماعات الأيدلوجية، يعد محددا لطبيعة قضية التمويل، بمعنى أدق هناك دول وحكومات وتنظيمات لا تتصدر قضية الإعلام أجندتها، أو تحتل مرتبة متأخرة لديها، وهناك إدراك متأخر بقيمة وتأثيرات وسيلة ما، ما يعد أزمة في حد ذاتها، يترتب عليه تسويفا يرفع الكلفة المالية في مرحلة ما عند الإفاقة لمردود تلك الوسيلة.

ثانيا: صناعة أو بمعنى أدق تشكيل قاعدة مؤمنة بالإعلام المهني الثوري، من النخب والعلماء، ورجال الأعمال، وأهل الفكر والثقافة، خيار هام يمكن أن يوفر مصادر تمويل مضمونة .

ثالثا: توظيف الاكتتاب الشعبي وهو خيار طويل المدى، لكن لا يمكن استبعاده، ومن الحكمة دراسة تجربة قناة “الشرق” وغيرها من التجارب المماثلة في هذا الشأن، لمعرفة مدى نجاحها، والمعوقات التي واجهتها، والطرق المثلى لإدارة مثل هذا النوع من عمليات الاكتتاب .

رابعا: العمل على توفير عوائد ربحية من خلال تقديم إعلام مهني واسع المصداقية، والانتشار، مدعوما بشبكة تسويق جيدة، الأمر الذي يحقق مكاسب كبيرة من روافد مختلفة، صناعة الدعاية والإعلان، وأرباح (Google AdSense ) نموذجا، وأرباح فيس بوك، ويوتيوب للفيديوهات الأكثر مشاهدة، وخدمات الـ sms ، والترجمة، والدبلجة، وبيع الأفلام الوثائقية، والاستشارات الطبية والنفسية، وخدمات الخط الساخن، والدورات التدريبية، وهي مصادر تمويلية وربحية نجحت في جني مكاسبها منابر إعلامية داخل مصر وخارجها.

خامسا: نمط الإعلام السائد الآن “استهلاكي ترفيهي”، وهو يحقق أرباحا خيالية، برنامج “آراب أيدول” نموذجا، وفي إطار ربحي مستهدف يجب أن ينال هذا الإعلام حصته، لكن على الجانب الآخر يجب التحول إلى الاعلام الخدمي والمعلوماتي، وهو يحظى كذلك بربحية عالية، شبكة “الأسوشيتدبرس” تحقق عوائد سنوية بقيمة 750 مليون دولار نظير بيع خدمات تليفزيونية، وأفلام وثائقية، ومواد صحفية وبحثية، بينما تحقق صحيفة نيويورك تايمز نحو 200 مليون دولار سنويا من الإعلانات على موقعها على الإنترنت.

ثالثا: التأسيس والإدارة

يشهد علم الإدارة والتخطيط تطورات كبيرة، وهناك اتجاهات حديثة في إدارة المؤسسات، خاصة المؤسسات الإعلامية، في ظل حاجتها الماسة إلى مرونة في إصدار القرارات وسرعة اتخاذها، وحل المشكلات السريعة والمتلاحقة والمتداخلة بين الأقسام الإدارية والفنية والتحريرية.

يتحتم في هذا الشأن تحديد نمط الملكية، ودراسة الاستحواذ على المؤسسات الإعلامية الصغيرة الناجحة، وبحث إمكانية تحقيق اندماجات كبرى بين المؤسسات الإعلامية القوية، أو القنوات الفضائية الناشئة، أو المواقع الالكترونية الصغيرة.

كذلك من الضروري الاستفادة من تراتبية الهيكل التنظيمي لمؤسسات إعلامية مثل قناة الجزيرة، أو وكالة أنباء الأناضول، أو صحيفة مصرية، وموقع الكتروني ناجح، للوقوف على قواعد التأسيس والإدارة في تلك المؤسسات.

هذا المرتكز يعنى بضرورة توافر ثلاث مستويات:

*أولا: إدارة عليا ترسم وتحدد الأهداف الكبرى وتضع الإستراتيجيات العامة وتتخذ القرارات اللازمة لتحقيقها.

*ثانيا: الإدارة التنفيذية أوالميدانية التي تشرف مباشرة على تنفيذ الأعمال وتنزيل السياسات على أرض الواقع.

*ثالثا: إدارة الجودة الشاملة، بهدف تحقيق تكامل أنشطة تطوير المحتوى الإعلامي، وقياس كفاءة العمل، ومراقبة الأداء، وجودة الرسالة، وأداء المؤسسات المنافسة، واستطلاع رأى الجمهور، وتطوير الموارد البشرية.

على نفس المسار، وفي خط مواز، يستند مرتكز “التأسيس والإدارة” إلى ثلاث دعامات، هي:

*إزالة العوائق البيروقراطية والروتينية في عمل المؤسسة.

*الشفافية، وترسيخ العمل المؤسسي، وتطبيق اللوائح، خاصة فيما يتعلق بملف التعيينات والأجور والترقيات.

*توفير بيئة عمل منتجة، ومحفزة، وتعزيز التعاون بين وحدات المؤسسة.

كذلك تبرز ثلاث اعتبارات يجب توافرها في بنية التأسيس والإدارة، هي:

*اعتماد التدرج الوظيفي في تبوء المواقع القيادية للإدارة الإعلامية.

*اعتماد مبدأ نظام البديل لإشغال مواقع الإدارة الإعلامية والصحفية.

*ضرورة إسناد قيادة العمل الإعلامي لـ”إعلامي مهني”.

المحور الثالث: التنفيذ

الثورة ليست في حاجة فقط إلى إنشاء جريدة يومية أو قناة فضائية تكون لسان حالها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال منظومة “إعلام الثورة” في موقع الكتروني، بقدر ما هي في حاجة إلى تنوع البنى التحتية الإعلامية، وتسخير وسائل الاتصال والمعلوماتية التي تطورت بشكل مذهل، بما يمنحها -أي الثورة- الكثير من الخيارات للتمدد إعلاميا، وإزالة عناصر الوهن الذي يعتري أدائها الإعلامي .

التطور القائم على الساحة الإعلامية يفرض تحديات ومتغيرات عدة ، وما تحدثه قنوات من صدى مؤثر مثل الجزيرة التي تعرف بأنها صنعت دولة، وكذلك مواقع “الفيس بوك” و”يوتيوب” وغيرها، يؤكد أن اللعبة الإعلامية باتت مختلفة، وتتطلب أدوات جديدة، وقد يفرض عليها أن تنطلق في ميادين أخرى لتجاوز الحجب والحظر، بشكل يمنحها آلة إعلامية قوية، وأذرع مختلفة التوجهات والرؤى، وصحفا يومية وأسبوعية، ومواقع ومنتديات الكترونية، وقنوات فضائية وإذاعية، ومنصات على مواقع التواصل الاجتماعي، ووكالة إخبارية رصينة، أي في المجمل بنية إعلامية لـ”ثورة” من المخطط لها أن تتحول إلى “حكومة” و”دولة” و”مؤسسات منتخبة”.

وفق مرئيات الواقع للمشهد الإعلامي داخل مصر وخارجها، يبدو “إعلام الثورة” عرضة للتخبط والعشوائية والارتجال، وغياب المؤسسية وتفشي البيروقراطية، وضعف التمويل والكوادر، لذلك من الأهمية أن تتحرر “آليات التنفيذ” من كافة هذه القيود، وأن تنطلق من حيث ما انتهى إليه الآخرون، وأن تتجاوز مرحلة الدراسات والتنظير إلى الواقع العملي، بل والتنافسية ودحر “إعلام الثورة المضادة”.

من الخطورة أن يستند التنفيذ إلى مواءمات، أو مجاملات، أو عواطف، وتحرير مصطلح “إعلام الثورة” يضع المعنيين بالأمر أمام تحد كبير، عند النظر إلى مبادىء عامة، أو سنن متعارف عليها للنجاح، على رأسها توظيف الطاقات والكفاءات، واختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، والقضاء على فلسفة منطق “الشللية”، وسوء إدارة الموارد البشرية والمالية، وقبل ذلك ترسيخ إعلام المهنية والرصانة، واحترام عقلية المشاهد، والخروج من نمط الإعلام “المؤدلج” و”المركزي” و”الحزبي”، إلى إعلام “المعلومة” و”القيمة” المضافة.

الرؤية التنفيذية تستند إلى دعامات رئيسة وفق ما تراه الدراسة، هي بالترتيب:

أولا: ترجمة التنفيذ إلى خطوات عملية يظل مرهونا بعاملي “الإرادة” و”الإدارة”، خاصة أن الأزمة التي تسيطر على مشهد الإعلام الثوري تتمركز حول غياب العامل الأول، أو بالأدق تراجع “موضوع الدراسة” في سلم الأولويات لحركات وقوى الثورة، وثانيا غياب العمل المؤسسي والإداري المنظم وفق خطط واستراتيجيات واضحة، وآليات للمراقبة والمتابعة والتقييم .

ثانيا: وضع الرؤى المستقبلية، ورسم الخطط الإعلامية، وتصنيع تروس الآلة الإعلامية المراد توافرها، وإقرار الخطوط العامة للسياسة التحريرية، وفق الرسالة المراد توصيلها، ونوع الجمهور المستهدف، وتحديات المرحلة، والأهداف المأمولة، وأجندة الحدث محليا وإقليميا ودوليا، نظرا لما يمثله ذلك من انعكاسات على مجمل المشهد المصري والعربي .

ثالثا: ضرورة تحديد وإقرار مصادر التمويل كمؤثر خطير برز في تشكيل منصات إعلامية عقب ثورة 25 يناير، وتدخل قوى إقليمية ودولية سعت إلى امتلاك منصات إعلامية مؤثرة لتفريغ محتوى الثورة من مضمونها، والضرورة هنا تحتم شقين:

الشق الأول: كشف شبكة تمويل إعلام الثورة المضادة، كمسار وعي للجمهور أولا، ومسار قانوني للمحاسبة ثانيا.

الشق الثاني: توفير شبكة تمويل مشروع للإعلام البناء والهادف، وتوفير “وقف” يوفر ديمومة الدعم والإنفاق لتعزيز “إعلام الثورة”، وذلك بالتزامن مع تطوير آليات الإعلام الخدمي والربحي .

رابعا: تنويع البنى التحتية الإعلامية ما يمنح “إعلام الثورة” الحرية للتمدد جماهيريًا، ويعزز تأثيراته ونتائجه على المدى القريب والبعيد، ويمكن دمج أكثر من أداة في منصة إعلامية واحدة.

أولويات التنفيذ:

تتصدر بدائل المواجهة وخيارات التمدد في الفضاء الإعلامي – وفق نظرة مستقبلية لحجم التطور التكنولوجي المتوقع- التوجه بالرسالة الإعلامية من خلال منصات سيكون لها الأولوية، وهي بالترتيب :

وسائل وتطبيقات الاتصال الحديثة، مثل (آيباد، آيبود، الأيفون، بلاك بيري، أيبود تتش، “واتساب” وغيرها) مما يعرف بالجيل الخامس من وسائل الاتصال والتكنولوجيا، خاصة أن الانعزال مع الجهاز اللوحي أو الهاتف النقال سيتفاقم بلا توقف إلى ما بعد عام 2020.

مما يعني أن الأولوية تتجه نحو استهداف تلك الأدوات بـ”غزو إعلامي ثوري” إذا جاز التعبير.

مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك، تويتر، يوتيوب، أنستجرام)، مع ضرورة توظيف غرف عمليات تدير مواقع التواصل وتتحكم في بوصلة النقاشات المطروحة، والمعلومات المتدفقة.

المواقع الالكترونية، شريطة تنوع مضامينها، وامتلاكها ثراء إخباريا ومعلوماتيا، ومواد خدمية.

القنوات الفضائية، خاصة أن هناك شرائح كبيرة لا تتواصل مع المنابر الالكترونية في مجتمع تشكل الأمية فيه نسبة40%.

مواقع التوثيق تبرز أهيمتها فيما تمثله من أداة رصد تحفظ ذاكرة الأمم، ووسيلة للحيلولة دون تشويه حدث ما، أو إثارة اللغط حوله، وهو أمر عانت منه كثيرا ثورة 25 من يناير، واكتوت بنيرانه قوى الثورة الحية، ومبادئها العادلة.

خطوات عملية:

أولا: إطلاق ودمج منصات إعلامية متعددة المضامين، وتفعيل منظومة الأدوات التي أشارت إليها الدراسة.

ثانيا: تأسيس مؤسسة إعلامية كبرى، تطلق عدة منصات على مسارات متوازية ( قناة + صحيفة + بوابة الكترونية).

ثالثا: تدشين مؤسسة متخصصة في مجال الصور والفيديو والكوميكس، على أن تتحول إلى وكالة ذات تنافسية في هذا المضمار الذي يزداد الصراع داخل أروقته على الصورة الحصرية، والسبق في مجال صحافة الفيديو.

رابعا: عمل منتدى تدريبي، يعمل على تنمية وتعزيز ظاهرة المواطن الصحفي، بشكل يدفع إلى انتشارها في أوساط جديدة من الأهمية الوصول بالرسالة الإعلامية إليها، ما يوفر مستقبلا حسا إعلاميا ناضجا لدى الجمهور، ويخلق نوعا من الرقابة الإعلامية على السلطة من قبل رجل الشارع .

خامسا: البدء في وضع لبنات شركة إنتاج إعلامي ضخمة، تتخصص في صناعة مواد فيلمية وسينمائية ومسرحية وترفيهية ودرامية وكرتونية متنوعة وهادفة، بما يعمل مستقبلا على تكامل الرسالة الإعلامية الموجهة للمتلقي، وصناعة البديل الإعلامي.

سادسا: تبني نهج إدارة وتنظيم حملات الدعاية والعلاقات العامة، من خلال معهد بحثي متخصص، للتأثير في صانع القرار، وعمل “لوبيات” ضغط في قضايا معينة تحتل أولوية على سلم إعلام الثورة.

سابعا: تأسيس معهد أكاديمي متخصص في صناعة الرموز الإعلامية، والكوادر الصحفية، وتدريب مقدمي برامج التوك شو، وإعداد المستوى الأول لقيادة المؤسسات الإعلامية من فئة (المدراء التنفيذيين، ورؤساء تحرير الصحف، ومدراء القنوات الفضائية، ومدراء المحطات الإذاعية) وتأهيلهم بطريقة علمية صحيحة، بما يصنع جيلا جديدا من الإعلاميين والصحفيين، ويمنح الثورة نخبة إعلامية جديدة تتسق مع الضمير الإنساني والقيم النبيلة.

ثامنا: توفير آلية لمخاطبة العالم الخارجي، لاسيما في ظل الصراعات التي تشهدها المنطقة، وحالة الاستقطاب الإقليمي والدولي التي تحكم ملفات عدة كان من أبرز ضحاياها ثورات الربيع العربي، ما يستلزم منصة بعدة لغات أجنبية لمخاطبة الرأي العام الدولي .

تاسعا: تعزيز التوجه التعليمي نحو دراسات الصحافة والإعلام، وذلك من خلال دفع قوى الثورة الحية للانخراط بأبنائها وكوادرها في دراسة هذا المجال، والتخصص فيه، والإلمام بأدواته.

عاشرا: تقديم منح دراسية دولية لطلاب الإعلام، والتوسع في نشر وتقديم المبادرات والبرامج المعنية بترسيخ مبادئ وقواعد ميثاق الشرف الإعلامي، بما ينعكس بالإيجاب على مجمل الأداء في الساحة المصرية، ويوفر إطلالة أفضل مهنيا وأخلاقيا للقائمين مستقبلا على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close